عالم مضطرب على أبواب تحولات جديدة
لا أعرف هل نحن محظوظون أم لا، بما أننا نعيش على أبواب مرحلة تحولات كبرى يشهدها العالم سيولد من رحمها عالم جديد، فبينما تتراجع أخبار الحرب في أوكرانيا إلى العناوين الثانوية في نشرات الأخبار الرئيسية على كبريات وسائل الإعلام العالمية، تتّجه الأنظار نحو ما يحدث من تحولات عميقة في مناطق أخرى من شأنها أن تعيد ترتيب النظام العالمي القديم الذي حكم العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
مؤشّرات هذا التحول العظيم يمكن أن نلخصها في ثلاثة أحداث كبرى، وكلها نتيجة للحدث الكبير في أوكرانيا، أي الحرب الروسية الأوكرانية التي تتحوّل المعارك تدريجياً فيها إلى حرب استنزاف طويلة الأمد لروسيا وللغرب على حد سواء، بما أن الغرب هو الذي يدعم المجهود الحربي الأوكراني بالمال والعتاد منذ عام 2014، وقد فاق الدعم الأميركي وحده 60 مليار دولار، قدمتها واشنطن لكييف خلال ثماني سنوات، من بينها 54 مليار دولار منذ بدء الحرب الحالية، أي خلال ثلاثة أشهر فقط!
المؤشّر الأول على هذا التحوّل اتفاق الأحزاب السياسية الأساسية في ألمانيا على تخصيص مائة مليار يورو لتحديث جيشها، حتى يصبح قوة دفاعية قادرة على حماية ألمانيا والدفاع عن أوروبا، كما قال المستشار الألماني، أولاف شولتز، الذي وصف القرار بأنّه "الردّ الصحيح على نقطة التحوّل التي بدأت مع هجوم روسيا على أوكرانيا".
تمثل المؤشّر الثاني في تعهد رئيس الوزراء الياباني، فوميو كيشيدا، بزيادة كبيرة في ميزانية دفاع جيش بلاده التي لا تخفي قلقها من الإنفاق العسكري المتزايد للصين والتهديدات الصاروخية من كوريا الشمالية، وهو ما سيجعل الحكومة اليابانية تنفق 60 مليار يورو السنة المالية المقبلة فقط، على أن يرتفع هذا الإنفاق إلى مائة مليار يورو خلال سنتين.
جاء المؤشّر الثالث على لسان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، في خطابه الذي عرض فيه سياسة واشنطن تجاه الصين الأسبوع الماضي في جامعة جورج واشنطن، واتهم الصين بأنها تشكّل تحدّياً للنظام الدولي القائم، بما أنّها القوة "الوحيدة التي لديها نية إعادة تشكيل النظام العالمي، كما لديها، وبشكل متزايد، القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية للقيام بذلك"، بحسب ما جاء في خطاب رئيس الدبلوماسية الأميركية، الذي حمل رؤية استراتيجية لمستقبل العلاقات بين أكبر قوتين اقتصاديتين عالميتين.
بدأ السباق المحموم نحو التسلح، خصوصاً في مجال إنتاج الأسلحة المتطوّرة والفتاكة، بما فيها النووية، ما من شأنه أن يثقل كاهل ميزانيات الدول
المشترك بين هذه المؤشّرات الثلاثة أنّها تريد أن تعود بنا 77 سنة إلى الوراء، غداة انتهاء الحرب العالمية الأولى، وبداية تشكل ملامح النظام العالمي الحالي الذي تأسّس على رؤية المنتصرين في آخر حرب كونية. وخطورة هذه التحولات لا تكمن فقط في رغبة القوى الصاعدة اقتصادياً وعسكرياً في إعادة ترتيب النظام العالمي الحالي الذي وصفه المتحدّث باسم وزارة الخارجية الصينية، وانغ وينبين، بأنه ليس سوى مجموعة من "قواعد المنزل" التي وضعتها الولايات المتحدة ودول أخرى قليلة للحفاظ على ما يسمّى "النظام" بقيادة الولايات المتحدة، وإنما في التداعيات التي سترافقها.
أول هذه التداعيات إذكاء السباق المحموم نحو التسلح، خصوصاً في مجال إنتاج الأسلحة المتطوّرة والفتاكة، بما فيها النووية، وهو ما من شأنه أن يثقل كاهل ميزانيات الدول، بما فيها تلك الغنية، مثل اليابان وألمانيا اللتين سترفعان سقف ميزانية دفاعهما إلى 2% من إجمالي ناتجهما المحلي، وهو رقم ضخم قياساً بحجم اقتصاد الدولتين، وهذا يعني زيادة مبيعاتهما من الأسلحة التي ستُقبل الدول غير المنتجة لها على اقتنائها، ما سيؤدّي إلى إنهاك ميزانية دولها، وينعكس سلباً على الأوضاع المعيشية والاجتماعية لشعوبها، وأكثر من ذلك سيزيد من حالة الاضطراب وعدم الاستقرار التي تعرفها اليوم أكثر من منطقة مشتعلة في العالم.
النتيجة السلبية الثانية لهذه التحولات سيكون لها انعكاس كبير على مستقبل الديمقراطية، خصوصاً في الدول التي لم تنجح في إرساء مؤسساتٍ ديمقراطيةٍ قويةٍ قادرةٍ على حماية ديمقراطيتها من الداخل، وهذا ما ألمح له بلينكن في خطابه عندما قال إن "رؤية بكين ستبعدنا عن القيم الكونية التي حافظت على قدر كبير من التقدّم العالمي على مدى الأعوام الـ75 الماضية"، بما أن التحالفات المقبلة بين الدول لن تحكمها قيم الديمقراطية والحرية، وإنما ستراعي المصالح السياسية والاقتصادية والجيوسياسية لهذه الدول على حساب كل ما هو قيمي.
المنطقة العربية أكثر المناطق في العالم التي لم تنته فيها الحروب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية
نحن على أبواب تحوّلات كبرى، وخلال العقد الحالي، سترتسم ملامح العالم الجديد الذي قد يضع نهايةً لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وعالم ما بعد نهاية الحرب الباردة. وقد يؤدّي إلى ميلاد نظام عالمي جديد، يخلف "الفوضى المنظمة" القائمة حالياً، حيث الغلبة للقوي، أما ادعاء أميركا أنها تريد إعادة ترتيب النظام الدولي لتجنب الفوضى القائمة، فهي مسؤولة عما يحصل اليوم، لأنها كانت وما زالت القوة المهيمنة في العالم، وفي عهدها انتشرت الفوضى التي تدّعي اليوم التصدّي لها.
وبالنسبة لشعوب الدول الأخرى، خصوصاً العربية، فهي كانت أكثر الشعوب المتضرّرة من تبعات النظام الدولي الحالي. ويكفي أنّ المنطقة العربية هي أكثر المناطق في العالم التي لم تنته فيها الحروب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ليس لأنّ شعوب المنطقة جُبلوا على الحرب، وإنّما بسبب تداعيات مخلفات الاستعمار الغربي لدول المنطقة، ومن بعدها استعماره الاقتصادي لجل دولها، وهو استعمار لا يعلن عن اسمه، لكن عنوانه واحد هو الغرب الذي لا يريد من يعارض طموحاته في الهيمنة والانفراد بزعامة العالم. من دون أن ننسى أن التحوّل الذي قد يطرأ على النظام العالمي الحالي قد يحمل، بالضرورة، تحوّلات في منطقتنا العربية، ولن تكون حتماً إيجابية، ما لم نسارع إلى مواكبة تحوّلات المرحلة الحالية للخروج من حالة السلبية الحالية، وحتى نكون قادرين على التأثير إيجابياً في صناعة مستقبلنا وتقرير مصيرنا وسط التحولات المقبلة.