عام جديد والعراق ينتظر حكومته
لم يتنفس بعد الشعب العراقي أنفاس الانفراجة المتواضعة التي كان يأملها من نتائج الانتخابات النيابية، أخيراً، بعد خسارة أحزاب وكتل سياسية لم تقدّم له طوال مسيرة حكمها الممتدة أكثر من 16 عاماً سوى الفساد والبطالة والاعتقالات والمليشيات المنفلتة وتفشّي المخدّرات والرذيلة والإرهاب المنظّم وتدهور الاقتصاد وهروب الاستثمار وغياب العدالة وغير ذلك الكثير. وعلى الرغم من ظهور نتائج واضحة تقريباً للقوائم الفائزة، إلّا أنّ سلسلة التحرّكات والتفاهمات بين هذه القوى والقوى المنهزمة (الإطار التنسيقي) من جهة أخرى طوال الفترة التي أعقبت إعلان النتائج لا تبشّر بولادة حكومة قوية قادرة على القيام بواجباتها من دون تدخل أحزابها ومن دون أن يكون ذلك على حساب المهنية والكفاءة اللازمة لتسنّم مهام الدولة بشكل كفء وبعيد عن المحاصصة.
نقول المحاصصة لأنّ ما يدور حالياً في العراق ما زال يمثل تكريساً للمحاصصة الطائفية، بدءاً من الكتل الفائزة بمسمّياتها المعنية بهذا الوصف؛ شيعية (الكتلة الصدرية)، سنية (عزم وتقدّم) وكردية (الحزب الديمقراطي الكردستاني)، ولو عمدت هذه القوى إلى تشكيل ائتلاف حاكم، لكان ربما يمثل مخرجاً لإنتاج حكومة أغلبية قوية، لكنّ لغة مصالح هذه الكتل دفعها إلى التفاوض أو قبول التفاوض من شخصياتٍ كرئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، وزعيم كتلة الفتح هادي العامري وآخرين، وهو ما يمثّل تجاوزاً على إرادة الشعب الذي رفضهم عبر بوابة الانتخابات.
القوى التي حكمت العراق منذ احتلاله عام 2003 أخذته إلى مجاهيل الظلام والتخلف والفساد
ما تدور حوله التفاهمات والمفاوضات بين جميع أطراف العملية السياسية هي صفقات مكاسب وظيفية، إضافةً إلى موضوع الرئاسات الثلاث، وهي في أغلبها على حساب مصالح وطنية عراقية، كتعهد أحدهم بتطبيق المادة الخاصة بالمناطق المتنازع عليها، واصطفاف آخر مع كتل خاسرة مقابل توليه نيابة رئيس الجمهورية، أو الحصول على وزاراتٍ بعينها كيما يستمر عمل مكاتبها الاقتصادية المبنية على الحصول على أموال الشعب العراقي من دون وجه حق لصالح أحزاب العملية السياسية.
العالم اليوم متفقٌ، وليس العراقيين فقط، على أن الوقت قد حان لتولي حكومةٍ عراقيةٍ قويةٍ مقاليد الأمور في حكم العراق، كما أعلنت دول العالم، وبطرق مختلفة، أنّ القوى التي حكمت العراق منذ احتلاله عام 2003 أخذته إلى مجاهيل الظلام والتخلف والفساد، وأنّ ما حدث في عام 2019 من حراك شعبي عراقي قد يكون نموذجاً مصغراً جداً لما يمكن أن يكون عليه من حيث النوع والكم ومساحة الانتشار فيما لو عاد الذين نبذهم العراقيون، وطردوهم من أبواب الانتخابات إلى دخول دائرة الحكم عبر شبابيك التوافقات التي يتم التفاهم عليها الآن بحجّة تجنيب العراق حرباً أهليةً قد تعمد إليها الأذرع العسكرية للقوى الخاسرة والمليشيات المنفلتة.
ويعترف مصطفى الكاظمي، الرجل الذي حاول أن يمسك العصا من منتصفها خلال فترة توليه رئاسة مجلس الوزراء (2019-2021) بأنّ ضغوطاً كبيرة تُمارس عليه؛ وهذه الضغوط تحديداً مصدرها دولة خارجية تمتلك من القوة والقدرة داخل العراق ما يهدّد أمنه واستقراره في أية لحظة تريد، وهو من خلال معرفته بهذا الواقع سيّرَ سفينة حكمه بأقل الخسائر الممكنة، لكنه كان، وما زال، يراهن على ولادة حكومةٍ قويةٍ تمكّنه من بسط نفوذ الدولة وقواها على قوى كثيرة تجذّرت قدراتها وإمكاناتها في كل مؤسسات الدولة، ومنها الأمنية والعسكرية على وجه الخصوص.
ولادة حكومةٍ قويةٍ لا تضع في تركيبتها أي طرفٍ من الأطراف الخاسرة ستكون لها ردة فعلٍ تُخلخل الأوضاع العراقية بقوة
أوفد الكاظمي أيضاً وزير خارجيته، فؤاد حسين، ومستشار الأمن القومي، قاسم الأعرجي، إلى طهران، للطلب منها ممارسة جهود التهدئة وضبط الفصائل المسلحة الموالية لها في العراق من ممارسة أي تصعيد قبيل انسحاب القوات القتالية الأميركية من العراق، خصوصاً أنّ موعد انسحاب هذه القوات يتزامن مع الذكرى الثانية لاغتيال قائد فيلق القدس الإيراني، قاسم سليماني، كما طلب الوزير العراقي مساعدة إيران في الضغط على أتباعها من قوى سياسية ومليشياوية في العراق لقبول نتائج الانتخابات، منعاً لأي تصعيد قد لا تحُمد عقباه.
عام جديد يراقبه العراقيون بقلق بالغ، يراهن أغلبهم على أنه ربما سيكون من أصعب الأعوام، ذاك أنّ ولادة حكومة توافقية ستفضي إلى مزيد من القلاقل والحراك الشعبي الرافض بقاء المرفوضين شعبياً في إدارة شؤون الحكم، بما يعني استمرار الفساد واستمرار التراجع الأمني والاجتماعي، كما أنّ ولادة حكومةٍ قويةٍ لا تضع في تركيبتها أي طرفٍ من الأطراف الخاسرة ستكون لها ردة فعلٍ تُخلخل الأوضاع العراقية بقوة، وقد تتحوّل إلى حرب منفلتة، تبدأها مليشيات عديدة منفلتة، وتغذّيها إرادات أجنبية لا تريد للعراق خيراً ولشعبه أمناً وازدهاراً، كما لا تريد له العودة إلى ممارسة دوره الحضاري داخل محيطه الإقليمي والدولي.