عبث المعارضة المصرية وضبابية المشهد الانتخابي
رغم الحكم القضائي المؤسف بحبس الناشر والسياسي المصري، هشام قاسم، إلا أنه لم يكن مفاجآة، فقبل بدء القضية المفتعلة، كانت لقاسم عدّة تصريحات جريئة نارية ضد النظام، فتساءل بعضهم "كيف ينتقد قاسم بهذه الجرأة ولم يمسّه أحد؟" ولكن كثيرين لم يتوقّعوا أن تكون الضربة ومبرّر التنكيل بقاسم قادمة من تيار آخر، يُحسب أيضا على المعارضة المصرية، وهو التيار الناصري، فقد تسبّب أحد أقطابه، بشكل متعمّد، في حبس هشام قاسم.
استنكر كثيرون ما حدث، وبالنسبة لي لم تكن المفاجأة كبيرة. بدأت الأحداث منذ ما يزيد عن الشهرين، عند تدشين التيار الليبرالي الحر المعارض، ليجمع رموزا وكيانات ليبرالية لهم مواقف معارضة لنظام الحكم في مصر. وقتها بدأ المحامي كمال أبوعيطة في كتابة تعليقات تتهم هشام قاسم بالخيانة والعمالة للصيونية، لأنه على علاقة وثيقة بالأميركان، وأنه لا مشكلة لديه في التطبيع مع الإسرائيليين (طبقا لوجهة نظر أبوعيطة)، فردّ قاسم بشكلٍ مضادّ على مواقع التواصل الاجتماعي، ذاكرا أن أبوعيطة تم تعيينه وزيرا للقوى العاملة بعد يوليو/ تموز 2013، عند إطاحة الرئيس السابق محمد مرسي، وأن هناك تحقيقات رسمية تم إجراؤها، تمسّ ذمّته المالية أو بعض تهم الفساد والتربح من المال العام تم توجيهها للمحامي والنقابي السابق، كمال أبوعيطة، عندما تولى منصب وزير القوى العاملة في فترة ما بعد "3 يوليو".
غضب المناضل السابق كمال أبو عيطة غضبا شديدا عندما ذكر قاسم شبهات الفساد التي أثيرت في أثناء توليه منصبا تنفيذيا، وكذلك عندما تحدّث قاسم عن دور أبوعيطة في دعم السلطة الحالية، فرفع الأخير دعاوى قضائية ليتسبّب لاحقا في حبس هشام قاسم بتهمة السبّ والقذف، واعتبر حقوقيون كثيرون فعلا غير مسبوق، أن يتسبب معارض في حبس معارض آخر بعد تلاسن عبر مواقع التواصل. واستنكر كثيرون أن أبوعيطة لم يجد غضاضة في توزيع تهم الخيانة والعمالة والتطبيع ضد تيار أو تجمّع سياسي مختلف عنه أيديولوجيا، فهي تهم مطّاطة تستخدمها السلطات العربية دوما ضد معارضيها، ولكنها، في الحقيقة، الاتهامات المفضّلة دوما لدى أنصار السلطة، وأيضا لدى جمهور القوميين العرب على السواء.
ليس غريباً أن يستخدم التيار القومي الناصري خطاب التخوين في مصر، فالنظرية تقوم في الأساس على نظرية المؤامرة
تحكي عدة مقالات وتدوينات تاريخ المحامي والناشط النقابي والمناضل السابق كمال أبو عيطة، بداية من عضويته في نادي الفكر الناصري، ونضاله في بداية شبابه ضد نظام أنور السادات في سبعينيات القرن الماضي، حيث كان ضمن الطليعة الشبابية الذين لديهم مواقف صارمة ضد الانفتاح الرأسمالي في عهد السادات، وكذلك ضد معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية حينها، ثم ظهر بقوة في فترة حسني مبارك ضمن الأنشطة المعارضة والاحتجاجات التي نظمتها حركة كفاية ضد مبارك، حيث كان أبوعيطة قائد الهتافات المناهضة لنظام الحكم وقتها، وبرز دورُه أيضا بشكل لافت في قيادة إضرابات عمّالية ضخمة في أواخر عهد مبارك، أما بعد الثورة فقد كان ضمن تحالف حزب الكرامة القومي الناصري مع جماعة الإخوان المسلمين!
ذكرت الكتابات فوز أبوعيطة بمقعد في البرلمان ضمن ذلك التحالف (رغم الصراع التاريخي بين التيار الناصري وجماعة الإخوان). وسرعان ما تغيّر موقفه إلى النقيض تماما، فقد كان للتيار القومي الناصري دور كبير في جبهة الإنقاذ التي تشكلت بعد تولي محمد مرسي رئاسة الجمهورية عام 2012، وكان لأبوعيطة دور كبير في الحشد في 30 يونيو/ حزيران 2013 وما بعد 3 يوليو 2013، حتى تم تعيينه وزيرا للقوى العاملة، وفي 2014 و2015 سافر إلى نيويورك من أجل قيادة التجمّعات المناصرة للرئيس عبدالفتاح السيسي خارج مبنى الأمم المتحدة في مواجهة التظاهرات المعارضة أو المندّدة بانتهاكات حقوق الإنسان في مصر.
للأسف، ليس غريبا أن يستخدم التيار القومي الناصري خطاب التخوين في مصر، فالنظرية تقوم في الأساس على نظرية المؤامرة، بالإضافة إلى الاعتزاز المفرط بالقومية العروبية، ولذلك نرى التلاقي والتقاطع بين القوميين العرب وأنظمة الحكم السلطوية العروبية في استخدام نظرية المؤامرة لتفسير الفشل والإخفاقات، فالتخلف سببُه المؤامرات الغربية، والفقر الدائم سببه المؤامرات الغربية، وهزيمة 1967 سببها المؤامرات الغربية. لا أنكر وجود مؤامرات مارستها القوى الاستعمارية قديما، أو تمارسها دول كبرى حديثا، لكن أنظمة الحكم المتعاقبة منذ الخمسينيات شريكة في إنجاح تلك المؤامرات عن طريق الديكتاتورية والفساد والاستبداد والاستعانة بأهل الموالاة في مقابل أهل الكفاءة.
كان لسلوك القيادي الناصري دور كبير في انفراط الحركة المدنية الديمقراطية، أو إفراغها من مضمونها، وهي الحركة التي تشكلت في العام 2017، وتضم أحزاب المعارضة المتبقية. وها نحن على مشارف انتخابات رئاسية، وانقسمت المجموعات حول أكثر من مرشّح محسوب على الحركة المدنية أو على المعارضة بشكل عام، وليس هذا جديدا أيضا على المعارضة المصرية، ففي 2012، وفي قمّة المد الثوري والمشاعر الملتهبة، انقسمت الأصوات والمجموعات، حول أكثر من مرشّح محسوب على الثورة، ما قادنا بعد ذلك نحو الاختيار بين المرّ والأكثر مرارة.
لم تتوافق القوى السياسية المصرية حول مرشّح واحد يمثل مطالب ثورة يناير في 2012 وأحلامها، فكيف نتخيّل التوافق على مرشّح أو فعل موحّد الآن؟
وبعد أكثر من 11 عاما لا جديد يُذكر، فاليوم يتقدّم أكثر من مرشّح محسوب على المعارضة أمام رئيس الجمهورية الحالي، وبدأ ما تبقّى من قوى المعارضة في مصر في الانقسام والتشرذم مجدّدا، فانقسمت الأصوات المنقسمة، وتشتتت الجهود المشتتة، وانهكت القوى المنهكة. ولكن ماذا عن شعار الحركة الوطنية الواحدة، أو فكرة الصف الواحد التي ردّدناها في شبابنا؟ هل كان هناك صف واحد في أي يوم؟
فكرة الصف الواحد الذي لا ينبغي شقّه رومانسية بنسبة كبيرة، ربما كان هناك صفّ لا ينبغي شقّه في الأحداث الكبرى، مثل فترة الثورة عام 2011، ولكن إذا عدنا بالذاكرة إلى الوراء، سنجد أن أطرافا عدة كانت، حتى في أثناء تلك الفترة الرومانسية، تتحرك بمفردها بدون تنسيق مع باقي الشركاء، حتى أثناء الـ 18 يوما في الميادين كانت القوى السياسية التقليدية تهدم كل محاولات التوافق حول قيادة صريحة للحراك الشعبي، فكانت هناك الأحزاب والقوى التقليدية التي ذهبت منفردة للتفاوض مع نائب الرئيس وقتها (اللواء عمر سليمان)، وكانت أيضا تيارات سياسية ترفض باستماتة فكرة تشكيل مجلس رئاسي تمثل الثورة، أتذكّر وقتها أن بعضهم أقسم أنه مستعدٌّ لهدم أي تحالف إن تولى "فلان" منصب أو رئاسة مجلس يمثل قوى الثورة.
لم تتوافق القوى السياسية المصرية حول مرشّح واحد يمثل مطالب ثورة يناير في 2012 وأحلامها، فكيف نتخيّل التوافق على مرشّح أو فعل موحّد الآن؟ المعارضة المصرية منذ تجمّعها وهي في صراع دائم، أيديولوجي أو شخصي، وليس هناك إطار جامع إلا في لحظات نادرة، ولكنه بمثابة إطار هشّ، سرعان ما ينهار أمام التحدّيات أو الخلافات التاريخية أو التنظيمية.
السبل ضاقت على الجميع، ولم تعد هناك أي صور للحياة السياسية، وأصبح التعبير عن الرأي في الوقت العادي مغامرة محفوفة بالمخاطر
في هذه الأيام مثلا ستجد من يعلن مقاطعة العملية الانتخابية برمتها، ويتهم من يشارك بالخيانة والانبطاح. ويتوزع المشاركون على عدّة مرشحين، وستهاجم كل حملة المرشّح الآخر بدعوى تفتيت الأصوات وشقّ الصف، فيما سنجد السلطة وأحزابها يمارسون النهج القديم نفسه، مثل الرشاوى الانتخابية للبسطاء بجانب حشد الموظفين بشكل إجباري من أجل التصويت وإرهاب الأصوات المعارضة. ويعلم كل واحد من المشاركين المنقسمين في المعارضة أنها انتخابات بدون ضمانات حقيقية، غرضها الوحيد إعطاء صورة وهمية للغرب أن هناك انتخابات ونظاما سياسيا في مصر، ولكن السبل ضاقت على الجميع، ولم تعد هناك أي صور للحياة السياسية، وأصبح التعبير عن الرأي في الوقت العادي مغامرة محفوفة بالمخاطر، لذلك لا لوم على من يحاولون المشاركة، حتى لو كانت الانتخابات مسرحية.
أرى أهمية كبيرة للجهود التي تحاول مخاطبة الناس وعودة الكلام العلني في السياسة، بعدما ظل محظورا سنوات، أرى أن محاولات المرشّح المحتمل، الشاب الناصري، أحمد طنطاوي، محاولات شجاعة، رغم اختلافي مع تفاصيل عديدة، وكذلك محاولة رئيسة حزب الدستور، جميلة إسماعيل، إعطاء نموذج عظيم كيف تكون المرأة الشجاعة ذات الإرادة السياسية. حتى الحملة الهادئة البعيدة عن الصدام المباشر لرئيس الحزب المصري الديمقراطي، فريد زهران، أثمّنها أيضا بشدة، فجميعها محاولاتٌ حتى لو كانت بغير أثر جذري الآن، لكن أثرا معتبرا سيكون لها في المستقبل المتوسط أو البعيد.
على أمل أن تتطور الممارسات في يوم من الأيام، ويتم معالجة خطايا الماضي.