عبدالله باتيلي جزءاً من المشكل الليبي
"على أصحاب القرار في ليبيا العمل على التوصل إلى توافق سياسي وإعلاء مصلحة الشعب الليبي على كل المصالح الأخرى".. جملة يكرّرها، منذ بداية الأزمة الليبية، كل مبعوثي الأمم المتحدة إلى ليبيا، وأعادها أخيرا المبعوث الحالي، عبدالله باتيلي، في إحاطته أمام أعضاء مجلس الأمن. كرّرها وهو يعرف أنها قيلت مرّات قبله في المكان نفسه وللغرض نفسه، وسيكررها المندوب الذي يليه وإن بلغة أخرى. أما أغلب الشعب الليبي فبات يكره هذه الجمل الفضفاضة كرهه للأجسام الجاثمة على صدره، إن لم يكن أشد كرها، وهو يعي تماما أنها لا تغني ولا تسمن من جوع سياسي طال أمده على مرأى ومسمع من الأمم المتحدة والدول الكبرى الفاعلة فيها، تلك الدول التي وعدت بمساعدة الليبيين في الوصول إلى الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة، وأكدت لهم أن تقدّم ليبيا وازدهارها في المجالات كافة مرهون باختفاء معمّر القذافي، ذلك الهدف الذي أعدّت له كل ما تملك من قوة ومن غارات جوية استهدفت معظم البنية التحتية والإمكانات العسكرية والمدنية، إلا أن الليبيين استيقظوا على عكس ما توقعوا، ووجدوا أكثر من ديكتاتور يرفض التنازل عن كرسيّه، وليدركوا أن الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة مصطلحان يظلان حبيسي جدران هذه الدول إلى أن يحين وقت استعمالها لتحقيق أغراضها، لتختفي بعدها إلى حين الحاجة إليها من جديد، ولتُخاض باسمها حروبٌ، وتسفك دماء وتدمّر أوطانٌ وتُنتج فوضى سُوقت ذات يوم أنها خلاقة ستنتج مجتمعات ونظما سياسية ديمقراطية، وتفرز قوى قادرة على التغيير.
يبدو أن باتيلي قد راق له ما قامت به الأميركية، ستيفاني، التي سبق وأن شكلت لجنة الحوار السياسي التي انبثق عنها ما تُعرف بحكومة الوحدة الوطنية
باتيلي الذي جاء بعد مخاض عسير استمر تسعة أشهر شهدت فيه أروقة الأمم المتحدة خلافات بين الغرب، وفي مقدمته أميركا، والصين وروسيا اللتان دفعتا في اتجاه تولّي شخصية أفريقية المهمة. بدأ المندوب عمله على غرار أسلافه السبعة، متنقّلا بين مدن ليبيا وقراها ليلتقي بشخصياتٍ اعتاد مندوبو الأمم المتحدة على تسميتهم الشخصيات الفاعلة، لتُعاد بالتالي البيانات والتصريحات نفسها التي حفظها الليبيون عن ظهر قلب، بل وأصبحت مدعاة للسخرية والتهكّم. وفي السياق نفسه، يبدو أن باتيلي قد راق له ما قامت به الأميركية، ستيفاني، التي سبق وأن شكلت لجنة الحوار السياسي التي انبثق عنها ما تُعرف بحكومة الوحدة الوطنية، المفترض، حسب مخرجات تلك اللجنة، أن تكون مهمتها الرئيسية والوحيدة الوصول بالبلد إلى الانتخابات والإشراف عليها وضمان نزاهتها خلال سنة، لتدخل الحكومة عامها الثاني، من دون أن يكون للانتخابات وجودٌ على أجندتها، بل أصبحت أحد العراقيل التي تحول دون إجرائها، فصرّح باتيلي إن خطته تعتمد على تحييد مجلسي النواب والدولة، مبرّرا ذلك بفشلهم في التوافق على قاعدة دستورية للانتخابات، موضحا أن الآلية تعتمد على "الجمع بين مختلف الأطراف الليبية المعنية، بمن فيهم ممثلو المؤسسات السياسية وزعماء القبائل ومنظمات المجتمع المدني وممثلون عن النساء والشباب"، وذلك حسب خطّته التي أعلنها في إحاطته، قبل الأخيرة، أمام الأمم المتحدة.
سارع مجلسا النواب والدولة إلى تشكيل لجنة على غرار 5 + 5 العسكرية، مع إضافة عضوين لتصبح 6 + 6 بعدما استشعرا خطر سحب البساط منهما
استشعر مجلسا النواب والدولة خطر سحب البساط منهما، الأمر الذي قد يؤدي إلى إيجاد جسم سياسي آخر، يفقدهما دورهما أو على الأقل قد يشاركهما السلطة والقرار، فسارعا إلى تشكيل لجنة على غرار 5 + 5 العسكرية، مع إضافة عضوين لتصبح 6 + 6، لتضاف إلى مجموعة اللجان التي أدمن متصدّرو المشهد تشكيلها، من دون أن تحقق أي نتائج إيجابية، بل كانت تؤكّد ما يردّده الجميع "إذا أردت أن تميع موضوعا شكل له لجنة". تلك اللجنة التي سارعت، قبل انتهاء المهلة التي حدّدها المبعوث الأممي لتفعيل خطّته البديلة في تشكيل لجنةٍ سياسيةٍ وتهميش المجلسين، في الإعلان عن توافق على قوانين الانتخابات الرئاسية والتشريعية. ولم يكن هناك اتفاق وتوافق كامل على كل النقاط. وقد أرجعت هذه اللجنة ذلك إلى الضغوط الداخلية التي تتعرّض لها، الأمر الذي جعلها تختار المغرب من جديد لتحمل إلى هناك ملفّاتها الخلافية، للبدء في جولة تفاوضية علها تتيح الوصول إلى نقطة تفاهم حول نقاط الخلاف، والتي تتمحور جميعها حول أحقّية مزدوجي الجنسية والعسكر وشخصيات من عهد القذافي في الترشّح للانتخابات الرئاسية. وكما هو متوقع أيضا، امتنع كل من عقيلة صالح وخالد المشري عن التوقيع، على الرغم من تصويت اللجنة في اجتماعها بالإجماع تأييدا للقوانين التي ستجري وفقها الانتخابات في البلد.
رفض المبعوث الأممي الذهاب إلى المغرب لحضور التوقيع على الاتفاقات
لم يقتصر الامتناع عن التوقيع على مخرجات اللجنة على رئيسي مجلس الدولة والنواب، بل تعدّاه إلى أن المبعوث الأممي رفض الذهاب إلى المغرب لحضور التوقيع على تلك الاتفاقات. وقال في تغريدة على حسابه في "تويتر"، تزامنا مع اجتماعات اللجنة في المغرب "شجعت رئيس مجلس النواب عقيلة صالح على حثّ أعضاء لجنة 6+6 على إبقاء نقاشاتهم مقصورة على الليبيين والمجلسين اللذين فوضناهما، وأن يكون التوقيع داخل الأراضي الليبية دليلا على الشفافية والاحترام". لم ينتظر الجهود المبذولة للوصول إلى تسوية لنقاط الخلاف التي أصبحت محصورة، بعد الاتفاق على معظم قوانين الانتخابات المقترحة، وسارع إلى التصريح إن مخرجات اللجنة غير كافية لتسوية المسائل العالقة لتنظيم انتخابات ناجحة، مضيفا أنه "سيتعذّر تطبيق قوانين اللجنة في غياب التوافق حول المواد الخلافية، ما قد يولّد أزمة جديدة". الأمر الذي فسّره كثيرون بأنه دفع في اتجاه خطته البديلة المتعلقة بتجاوز مجلسي النواب والدولة، واختيار اللجنة التي أشار إليها منذ توليه المهمة. أما آلية الاختيار والأسس التي سيتم بها اختيار أعضاء هذه اللجنة، فلن تكون أكثر وضوحا من التي اعتمدتها ستيفاني في اختيار لجنتها، والتي لا تزال لغزا عصيّا على الحل.
وقد أثار موقف باتيلي من اجتماعات لجنة 6 + 6، وإصراره على خطته بتكوين اللجنة السياسية التي ستتولى إعداد قوانين الانتخابات، موجة من الانتقادات، اعتبرت تهميشه مخرجات اللجنة انحرافا عن مهامه مندوبا للأمم المتحدة، والتي تفضي لمساعدة الليبيين على إنهاء النقاط الخلافية بينهم، والوقوف على مسافة واحدة بين الجميع. وكان مجلسا الدولة والنواب أول منتقدي خطوات باتيلي التي يصرّ فيها على تجاوزهما. كما دان بيان صادر من المترشّحين للرئاسة دور البعثة الأممية وموقف مندوبها السلبي حيال اجتماع لجنة 6 + 6 (والنأي بنفسه عن اجتماعاتها التخلي عن مهمة الوساطة، ووقوفه متفرّجا على الخلافات القائمة). وقد تصاعدت الانتقادات بعد إحاطة باتيلي أخيرا في الأمم المتحدة، والتلميح بعزمه على عدم انتظار توافق بين اللجنة المشكلة من مجلسي النواب والدولة، والذي قد يطول إلى الدرجة التي تصبح الانتخابات فيها حلما لن يتحقق في القريب، سيما وأن اللجنة مشكلة من أعضاء ليس في صالحهم الوصول إلى انتخابات تنهي مزايا يتمتعون بها منذ أكثر من 10 سنوات.