عبد الباري طاهر .. ضمير يمني
شكّل تشظي المؤسسات الثقافية الوطنية اليمنية في ظل الحرب أحد الأوجه الكارثية للانهيار السياسي والمجتمعي في البلاد، بحيث أدّى ذلك إلى تضاؤل تأثيرها في المجتمع، وبالتالي فشلها في بلورة خطاب وطني جامع. وفيما ترجع جذور تشظي أغلب المؤسسات الثقافية إلى تعرّضها للتجريف من نظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح، بحيث كرّس الصراعات السياسية بين نخبها الثقافية، بما في ذلك إزاحة الرموز الوطنية في مقابل تصعيد مثقفي نظام صالح في أطرها القيادية، فإنها، إلى حد ما، حاولت تجاوز حدّة الصراع السياسي، عبر تبنيها لقضايا إنسانية ضداً من سياسة النظام حينها، إلا أن الحرب قوّضت ما تبقى من بنية هذه المؤسسات، وذلك نتيجة انخراط معظم النخب الثقافية مع أطراف الصراع اليمنية، وتحولهم إلى منتجين لخطاب الحرب، وانكفاء كثيرين منهم اجتماعياً، بحيث أدّى ذلك إلى شلل هذه المؤسسات، فضلا عن انقسامها مناطقياً. ومع استمرار غيابها في واقع الحرب، وتشظيها، استطاعت رموز ثقافية يمنية، خلال سنوات الحرب، أن تلعب دورا محورياً لا يمكن تجاهله في تمثل الخطاب الوطني، بحيث تحوّلت إلى حائط الصد الأخير للدفاع عن اليمنيين، على اختلاف جغرافيتهم، بما في ذلك تبنّيها مظلوميتهم اليومية.
كحالة وطنية وإنسانية فارقة، أسهمت في تحريك الراكد الثقافي في اليمن، بما في ذلك تعويض غياب المؤسسات الثقافية، يعد المثقف والصحافي، نقيب الصحافيين اليمنيين الأسبق، وعضو المجلس التنفيذي لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، عبد الباري طاهر، مثالا حيوياً لتمثلات الخطاب الوطني والإنساني في الداخل اليمني، بحيث عكس نضالات الحركة الوطنية اليمنية، التي هو أحد أعمدتها، إذ شكل، من خلال كتاباته التحليلية التي تدين أطراف الحرب، ومواقفه الإنسانية المنحازة لليمنيين، ونشاطه الثقافي اليومي المتنوع، إضافة نوعية لاشتغالات المثقف الوطني، إذ تحوّل مشروعه الإنساني الذي ينتصر لليمنيين إلى مؤسسة وطنية فردية، قامت على أنقاض تلاشي مؤسسة اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، المنقسمة على نفسها، وكذلك ضمور دور نقابة الصحافيين، بحيث أنتج عبد الباري طاهر، على مدى سنوات الحرب، إرثا ثقافيا بلور مشتركا وطنيا ينبذ فكرة الحرب والاقتتال الأهلي، بما في ذلك تعزيزه ثقافة السلام والتضامن الإنساني.
تتمظهر فرادة عبد الباري طاهر في تعزيزه مشتركاً يمنياً يتعارض مع البيئة الاستقطابية التي أوجدتها اصطفافات قوى الحرب
تأتي الخبرة المحنكة لمثقف يمني ناضل في صفوف الحركة الوطنية، بما في ذلك معارضته الأنظمة السياسية المتعاقبة، وناقدا اختلالاتها، مرجعية سياسية حكمت مواقف عبد الباري طاهر، في ظل الحرب وموقفه الأصيل المناهض لأطرافها. كما أسهم تكوينه الثقافي الغزير، ووعيه اليساري المتشكك، في إيجاد شخصية نقدية تجاوزت كل أشكال الولاءات الضيقة، الأيديولوجية والمناطقية والطائفية التي كرستها الحرب، بحيث استطاع أن يكون على الضد من تمثلاتها السياسية والثقافية في المجتمع اليمني، فيما أسهم انخراطه عقودا في العمل النقابي في المؤسسات الثقافية اليمنية، في إعلائه مبدأ التضامن الحقوقي كمشترك وطني، الأمر الذي عزّزه في وجدان المثقفين اليمنيين بصفته مدافعا ونصيرا لقضاياهم، إضافة إلى أن نهمه المعرفي، مثقفا واسع الاطلاع على النتاج الإبداعي والسياسي اليمني والعالمي، عمّق من مقاربته الشأن العام، ومنحه بذلك القدرة على تجاوز السطحي نحو اشتغالاتٍ أكثر عمقا، بحيث مثلت كتاباته الحفرية من داخل بنية الحرب، بامتداداتها المحلية والإقليمية، محدّداً أوليا لمعماره الطويل الذي اشتغل عليه بدأب، سواء في تحليله جذور دورات الصراع المتعاقبة في اليمن، بما في ذلك الحرب الحالية، أو في تقصّيه آثارها الاجتماعية بعيدة المدى على اليمنيين، بحيث وثق، في كتاباته اليومية، مجريات الحرب وتعقيداتها السياسية والعسكرية، من موقعه مثقفا وطنيا، وضميرا يمنيا منحازا لمصالح اليمنيين.
يتحرّك في حياته، كما كتاباته، في تتبع خطٍّ ثابتٍ لا يحيد عنه، وهو الانحياز لكل ما هو يمني، تاريخاً وجغرافيا، أرضاً وإنساناً
مثل تفتيت بيئة الحرب في اليمن همّاً فكرياً وسياسياً للأستاذ عبد الباري طاهر، ميّز نشاطه الثقافي طوال الحرب، من خلال سعيه إلى تجفيف الأرضية الثقافية لخطاب الكراهية عبر إنتاج خطاب وطني، بما في ذلك اشتغاله على الهم الثقافي والإنساني لليمنيين، فيما ظل موقفه المبدئي، المنحاز للسلام موقفا وممارسة، يعكس نشاطه المجتمعي والسياسي، فإضافة إلى تبنّيه مبادراتٍ محلية عديدة لوقف الحرب، وكذلك مناشداته أطراف الصراع تخفيف أعباء الحياة اليومية على اليمنيين، فإنه دعم كل أشكال المبادرات الإنسانية والمجتمعية المحلية التي تتبنى قضايا المواطنين، فيما تتمظهر فرادة عبد الباري طاهر في تعزيزه مشتركا يمنيا يتعارض مع البيئة الاستقطابية التي أوجدتها اصطفافات قوى الحرب، ونخبها السياسية والثقافية، بحيث مأسس، منذ بداية الحرب، نهجا تضامنيا لافتا من خلال إصداره بيانات يومية تتناول الشأن العام، وتتبنى مطالب اليمنيين، فضلا عن البيانات اليومية المتضامنة مع أي يمنيٍّ انتهكت سلطات الحرب إنسانيتَه وحقوقه، بحيث تحولت بيانات عبد الباري، مع مثقفين فاعلين، إلى مؤسسة رقابية، تدين جرائم أطراف الصراع المحلية والإقليمية وانتهاكاتها، بما في ذلك البيانات التي تتبنّى الحالات الإنسانية للمثقفين اليمنيين، بحيث استطاع بمهارة أن يدعم التضامنات الإنسانية طوال الحرب، وقد شملت جغرافيا اليمن من أقصى شماله وحتى جنوبه، فضلاً عن إصداره بياناتٍ تضامنية مع الشعوب العربية وقضاياها. ويبدو أن حرصه الدؤوب على إرساء ثقافة التضامن الإنساني اللامشروط هدف إلى جذب ما تبقى من إنسانية المثقفين اليمنيين حول قيمة مشتركة، باعتبار التضامن الإنساني أحد الأشكال الأخيرة لمقاومة سلبية المثقفين في ظل الحرب.
مثَّل تفتيت بيئة الحرب في اليمن همّاً فكرياً وسياسياً له، ميّز نشاطه الثقافي طوال الحرب
ربما من الصعب حصر اشتغالات عبد الباري طاهر، الثقافية والإنسانية، طوال الحرب، ودوره الفاعل في مقاربة الهم اليمني بشكل يومي، إلا أن تتبع الصوت الإنساني غير المسيس، واليمني في المقام الأول، الذي يمثله الرجل تجعلنا ندرك استثنائيته مثقفا وطنيا في ظل سقوط معظم النخب اليمنية، وهو ما جعله عرضةً لشتى أنواع التهديد والتخوين والتشويه من أطراف الحرب، والمنتفعين منها من المثقفين والصحافيين والنشطاء على اختلاف معسكراتهم، جديدها أخيرا تهديده بالتصفية الجسدية من قوى مليشياوية، رأت في انحيازاته الوطنية ومواقفه الإنسانية خطراً على مشروعها الطائفي، إلا أن حملة التضامن الشعبية الواسعة معه حملت، في مضامينها، رسالة إلى سلطات الحرب، بما في ذلك نخبها، أن القيمة الوطنية التي يمثلها عبد الباري طاهر، بموقفه المناوئ لأطراف الحرب، وتبنيه مصالح اليمنيين، عزّزت حضوره صوتا وطنيا في وجدانهم، ومن ثم يمثّل استهدافه استهدافا لما تبقى من كرامة اليمنيين، وأن المال السياسي المحلي والإقليمي، وان استطاع في واقع الحرب، صناعة نخب سياسية وثقافية طارئة، فإن الشعوب وحدها من يعرف رموزها التي انحازت لمصالحها وتبنّت قضاياها، بحيث تخلدهم في ذاكرتها الجمعية، أبطالا حقيقيين.
في اليمن، يُضبط إيقاع الحياة اليومية على سردية الحرب ومعاركها وأمرائها ونخبها، فيما لا تبدو الحياة اليومية بالنسبة للصحافي المشاء الذي يقطع كل يوم أزقة صنعاء وشوارعها، متلمساً هموم البسطاء والمثقفين، شيئا منجزاً ومفروغا منه، وإنما يمكن تصويبها بفعل التأكيد على المشترك الإنساني وإشاعة ثقافة السلام والتضامن، وهو وبلا يأس، متحرّك في حياته، كما كتاباته في تتبع خطٍّ ثابتٍ لا يحيد عنه، وهو الانحياز لكل ما هو يمني، تاريخاً وجغرافيا، أرضاً وإنساناً، فيما تظل قناعاته الثابتة التي لا تتزحزح إدانة لحربٍ بلا معنى، تجري في بلاده، ليكون عبد الباري طاهر الضوء الآتي في آخر نفق انهياراتنا الوطنية.