عشرية الربيع العربي
لا يود العنوان أعلاه الإيحاء بمآلات السنوات الجزائرية العشر، تلك التي استحقّت بجدارة اسم العشرية السوداء، لكثرة ما استسقته من دماء. ولا يغمز الكاتب بطرف عينه الى موقفٍ مستجد، جرّاء ما انتابه من تشاؤم وإحباط، إزاء الإخفاقات والانتكاسات التي لحقت بالثورات العربية طوال عقد، خصوصا وأن كاتب هذه السطور كان، ولا يزال، متمسّكاً برؤيته وقناعاته، مستبشراً ومنافحاً عن هذه الظاهرة التي غيرت وجه العالم العربي، ونفضت عنه الجمود والاستكانة، وردّت الروح إلى الكفاح الشعبي من أجل الحرية والعدالة والديمقراطية.
بعد انقطاع طويل عن الحديث حول مخاضات الربيع العربي المديد، والانصراف عنها لصالح مسائل أكثر إلحاحاً على جدول الأعمال، استدعت الذكرى العاشرة لثورة الياسمين التونسية، التي كانت بمثابة السنونو المبشّر بأجمل الفصول، وقد حلّت قبل أيام، العودة، بلا حفاوة أو ابتهاج، إلى هذه الواقعة الكبرى، واسترجاع بعض ما فات، سيما وأن الشرارة المبكرة، أو قل الوردة الأولى التي تفتحت في هذا البستان الواسع، تعد بمثابة عيد ميلاد الربيع العربي بمفهومه الأشمل، حتى وإن اختلفت مواقيت الاحتفال بها بين بلد وآخر.
ولعل الملاحظة الأساس التي حفزت على تسطير هذه المطالعة تمثلت في مغزى اختفاء مظاهر إحياء يوم انطلاق الثورة في مهدها الأول، ومعنى تواري أصحابها عن الأنظار بصورة متعمدة، على الرغم من أنها كانت الثورة الأكثر نجاحاً بين سائر الثورات العربية، على الأقل في سنواتها الخمس الأولى، ناهيك عن قفز معظم الكتاب من سدنتها القدامى، عن استرجاع هذه الذكرى التي لا تمحي من البال، بمن فيهم كتّاب "العربي الجديد" الذين شرّقت مقالاتهم وغرّبت نحو شتى الموضوعات.
والحق، أنه لا لوم على من امتلأت قلوبهم بخيبات الأمل، وشاءوا، تحت وطأة الشعور بالإحباط، الابتعاد بأنفسهم عن مشقة الخوض في هذا المخاض العسير، ولا عتب على من دهم عقولهم شيءٌ من اليأس أو انتابهم الشك، وآثروا الاعتصام بالصمت، وربما الحزن النبيل، جرّاء ما آلت إليه أحوال الناس من حولهم، وما عصفت به التطورات بالضد من مقارباتهم، في بحر العقد الأول من زمن الربيع المغدور، الأمر الذي يمكن معه تبرير كل هذا الانطواء على الذات، ومن ثمّة الهروب بعيداً، واجترار الأحزان على اطلال ربيعٍ نشبت فيه الحرائق من كل فج عميق.
لا يتسع المقام لإجراء مراجعاتٍ كثيرة، وكذلك ليس الآن أوان الحفر عن الأسباب والموجبات، أو تقاذف المسؤولية عن حالة الارتكاس التي أصابت الربيع العربي في موجتيه، غير أنه وسط هذا الركام العظيم يمكن الإشارة بثقة إلى أن هذا الربيع، الزاخر بشتى العظات والدروس، قد أعاد تشكيل الوعي العربي، خلق فاصلاً فارقاً بين زمنين، هزّ أركان الأنظمة الشائخة، أطلق حرية التعبير، كسر النمط التخويف السائد تاريخياً بين الدولة ومواطنيها، وغيّر الصورة العربية المتكوّنة لدى العالم، عن قومٍ بدوا كأنهم الاستثناء، يتقبّلون الاستبداد، ويقيمون خارج مسارات الزمان.
صحيحٌ أنه يمكن تعليل تعثر الربيع بجملة طويلة من المعطيات التي اكتنفت مدار التغيير المنشود، أكثرها ذاتي وأقلها موضوعي، إلا أن من الصحيح أيضاً ضرورة محاكمة الربيع برؤيةٍ ترى أبعد مما تقع عليه عين المراقب المتعجّل، ممن يبسّط الخلاصات، ويتسرّع في الوصول إلى الاستنتاجات المخلّة، بدل عقد المحاكمات بذهنية المؤرّخ، وإجراء المرافعات بعقليةٍ قوامها النقد والنقد الذاتي، وفي مركز القلب منها، طبعاً، الاعتراف بالأخطاء التي لا يمكن تحميلها لقوى الثورة المضادّة، بل إلى الأنانية والارتجال والاستئثار والانقلاب على الشركاء.
خلاصة القول المفتوح للنقاش، لا تسير الثورات على خط مستقيم، بل تمضي على دروبٍ وعرة كثيرة التعرّجات، تكبو وتنهض مرّات ومرّات، تخبو جمراتها حيناً ثم تتوهج مجدّداً تحت الرماد، ولا تحقق مبتغاها بين عشية وصباح، وقد لا يصح وصفها حدثا، وإنما عمليةً طويلة المدى، لها سيرورة تاريخية، إن لم نقل إنها قوة دفع متجدّدة بديناميات خاصة لا ترى بالعين المجرّدة، أو حدث تأسيسي لا يأتي أكله إلا بعد جيل أو جيلين، تماماً على نحو ما كانت عليه الثورة الفرنسية، وهي أفضل معيار تاريخي موثوق، وربما أدق أدوات القياس لمقاربةٍ ما نحو ما نحن عليه من حال.