عصرنا هذا الذي يتفوّق على لحظة انهيار حضارة البرونز
نحن في العام 1177 قبل المسيح. في منطقة شرق المتوسط، الممتدّة من جزيرة كريت اليونانية حتى مصر الفرعونية، ومن بلاد كنعان وحتى بابل، في أعماق بلاد ما بين النهرين، وعلى أطرافها مدينة أوغاريت السورية الساحلية الشهيرة. منطقة متداخلة، متعاونة، متشابكة. تقيم بينها التعاملات التجارية، التبادلات الثقافية، وحتى الزيجات الملكية. متعوْلمة بالقدر الذي تسمح به موارد ذاك الزمن وتقنياته. عرفت الازدهار لمئات الأعوام. ولكنها اليوم تشهد على انهيارها التام.
السبب؟ سنوات طويلة من الحروب الأهلية، من الجفاف والمجاعات المكرّرة، نتيجة تبدّل المناخ، من الهزّات الأرضية المتوسطة المتتالية، من اختلال أنظمة التبادل بين ممالكها، وأخيراً، من هجمات دورية لـ"رجال البحر". إنهم قراصنة، أو هاربون بقواربهم من بلادهم. والإثنان يجولان على شواطئ شرق البحر المتوسط، بحثاً عن بلدة أو مدينة، يهجمون عليها يسلبون خيرات أهلها، ويقتلونهم أحياناً.
هذه الوقائع يرويها المؤرّخ وعالم الآثار الأميركي، إريك كلاين، في كتاب عنوانه "1177 قبل المسيح. اليوم الذي انهارت فيه الحضارة". وهو يستند إلى براهين من الآثار. كل فصل منه لعامل من عوامل الانهيار. وبأسلوب شائق، وإسقاطات وتلميحات مستمرّة بأن هذا الذي شهدت عليه نهاية عصر البرونز، إنما يشبه عصرنا. الكتاب صدر منذ عشر سنوات تقريباً. وقتها، قال عنه معظم النقاد، إنه يبالغ بأن تعريفه العولمة مفوَّتْ، بأنه يندرج ضمن الأدبيات الكوارثية المرتدية لباس العلم، بأن علم الآثار هو تأريخ منقوصٌ أصلاً. وأخيراً، إن الكتاب أقرب إلى الرواية الديستوبية الماضية، وغير المقنعة.
وفي هذه الأثناء، تضجّ الأرض بأدبيات ديستوبية مستقبلية، تدور كلها حول ما سيكون عليه كوكب الأرض بعد تفاقم أزمة المناخ. وبروز تلميذةٍ لا يتجاوز عمرها الرابعة عشرة، سويدية، اسمها غريتا ثنبرغ، تنظم تلامذة صفها، تشجّع تلامذة العالم، للقيام بحركة احتجاجية على إهمال "الجيل القديم" قضية المناخ، وتحضر مؤتمرات عالمية، تؤنّب دونالد ترامب حضورياً، "بنظراتها السوداء"، على إنكاره أزمة المناخ. وصولاً إلى علماء مرموقين يعترفون بفشلهم، يعتذرون من عدم دقة توقعاتهم المناخية.. كلما اجتاحت إحدى البلدان موجة حرائق وجفاف أعاصير مدمّرة، وارتفاعات في درجة الحرارة.. كلها غير مسبوقة.
عوْلمة تفصلنا عن بعضنا، مدعومة بتكنولوجيا تراقبنا في أصغر عاداتنا وتنقلاتنا وأقوالنا
ارتفاع الحرارة ومستتبعاته يعني اختلالا تدريجيا، وربما كاملا، للتوازن البيئي بين كل مكوّنات الطبيعة. كل الكائنات الحية وكل الجوامد، فيكون السبب والنتيجة: الفيضانات والجفاف والأعاصير، وتداخل الفصول، وتسمّم مياه الشتاء.. وضحايا هذه الدواهي، جنودها المجهولون بات لهم اسم خاص: "لاجئون بيئيون"، معظمهم من القارة الآسيوية، غرقت جزرهم بالمياه، أو تصحّرت أراضيهم الزراعية. هربوا من فائض المياه أو من ندْرتها. قد يكون عددهم تجاوز العشرين مليونا، وهو رقم أحصته الأمم المتحدة منذ سبعة أعوام. وثمّة توقعات بأنهم سيتجاوزون المئتي مليون بعد ثلاثين سنة.
هذه أوائل معالم التشابه بيننا وبين نهاية حضارة البرونز. الحروب ثانيتها، الصغيرة محصورة، والكبيرة مثل غزو روسيا أوكرانيا، ستحرمنا من أكلنا وشربنا وجيوبنا وأمننا. غير القنابل النووية التي صارت ترفع مثل إشارة حَكَم في ألعاب كرة القدم. وخطر عسْكرة أوروبا وإفقارها. وتضعْضع ما كان مهداً للحداثة الواعدة، الآمنة الحضارية.
وقبل الغزو الروسي، كانت الجائحة، وما زالت. واهتزاز الثقة بالعلم والطب، تدهور الخدمات الصحية والبنى التحتية الصحية في جميع الأنحاء، في البلدان الغنية كما الفقيرة، ومستقبل مظلم يترقب صحتنا الجسدية والنفسية.
ثم عوْلمة تفصلنا عن بعضنا، مدعومة بتكنولوجيا تراقبنا في أصغر عاداتنا وتنقلاتنا وأقوالنا، لا نفهم شيئاً من "قوانينها" وذكائها الإصطناعي الموعود بأدوارٍ خارقة. ننبهر بها، فننكبّ على أرخص اختراعاتها وأكثرها جاذبية: الهاتف الذكي، الذي يعزلنا عن بعضنا، ويساهم في تضييق هوياتنا. وغلْطة واحدة في خط من الخطوط أو في كابل بحري، أو ارتفاع درجة حرارة واحد منهما، بما يتجاوز المقاييس، أو بالعكس انخفاضها.. غلْطة واحدة من هذا القبيل أو من غيره، وتتوقف أمورنا وأعمالنا وتنقلاتنا وكل صلةٍ لنا بغيرنا.
حروبنا أهلية أكثر من نظامية. طاحنة، مختلفة الألوان، تصدّر الأرقام القياسية بلاجئي الحروب
الجائحة، الحرب، المناخ، التكنولوجيا وقراصنتها ("رجال بحر" العصر؟) وذبابها وهشاشتها.. كلها تضع العالم بأسره وجهاً لوجه، أمام اقتراب نهايته. أين منها آخرة عصر البرونز.
تكلمنا حتى الآن عن العالم المتقدّم الوفير، المكان الذي نهرُب إليه، نقول "نهاجر"، عندما تشتدّ علينا مصائبنا، نحن سكان الشرق الأوسط العربي. ومصائبنا هذه، تتفوّق على غيرها من تلك التي يواجهها اليوم الغرب المتحضر الغني.
هل كان عصر البرونز، كما هو اليوم، مقسوماً بين أمم ومناطق فقيرة تابعة وأخرى غنية متحكّمة؟ هذا فرقٌ لا يلحظه الكاتب الأميركي كثيراً. لكن الواقع الحالي يضيف على كتابه المتشائم أن كل هذه الأزمات التي يواجهها الغرب ليست مهولة، لو قيست بحجم التي تتربّص ببلادنا، في الشرق الأوسط. ومن هذه الزاوية بالذات، حروبنا أهلية أكثر من نظامية. طاحنة، مختلفة الألوان، تصدّر الأرقام القياسية بلاجئي الحروب، الهاربين ركضاً أو على ظهر قوارب مطاطية. وهي تتهيأ لتصدير لاجئي المناخ الجُدُد، فالجفاف يتوسّع في بلاد ما بين النهرين، في مهد الحضارة. وكذلك في سورية ولبنان. وفي مصر وسدّ النهضة الإثيوبي، والسودان والفيضانات. وتوقعات من الأمم المتحدة والبنك الدولي أن منطقة الشرق الأوسط سوف تشهد على تراجع الإنتاج الزراعي، وسوف تخسر مبالغ لا تقلّ هولا من نتاجها الوطني بعد ثلاثين عاما. الفقر، القحط، الجفاف، الحروب، اللاجئون، تحكمهم أنظمة سياسية، لا تسهر عليهم، ولو من باب المسايرة الخطابية، أو الضحك على الذقون.. كلا لا تعرف. لأنها مطمئنةٌ إلى القاعدة الصلبة التي تبني عليها أسس تسلّطها. أعني الهويات الضيقة، الدينية، السياسية، الطائفية، القروية.. كل ما يحيل صاحبها إلى التفكير المحلي البحت، الذي لا يُلاحظ غير ما يراه بأمّ عينه.
البشرية الآن غارقة في هاتفها، ولا ترفع رأسها نحو السماء، لا تتعلم من تجاربها، لا القريبة ولا البعيدة
بمعنى آخر، مناخ، جوع، حروب، تهجير، فقر، واستبداد يحرم العقول من التفكير خارج ولاءاتها. نحن أقرب من سوانا إلى المصير الذي رواه عالم الآثار الأميركي. نحن على كوكبٍ واحد، مصيره مهدَّد، نتقاسم مع البشرية مصائبها القادمة إليها بالتدريج. ولكننا لا نتشارك، لا نبادر، لا نستطيع أن نصيغ هذه التهديدات، والحثّ على مواجهتها، ومعرفتها عن طرق الحماية منها، ولو المؤقتة. وبذلك نكون على درجةٍ أخرى من العجز، بعد عجزنا عن إصلاح بلادنا.
ماذا كان سيفكّر أهل حضارة البرونز، لو لمسوا بداية نهايتهم؟ هل احتاطوا؟ أو خزّنوا؟ أو اختبأوا؟ كتاب إريك كلاين "اليوم الذي انهارت..."، لا يدخل في هذه التفاصيل أيضا. ربما لنقص في الشواهد، أو في الاهتمام، أو في زاوية النظر. وهذا فرق أيضاً بين عصرنا وعصر البرونز.
فإذا كانت المصالح والحروب والجائحات والذكاء الاصطناعي.. تفيض عن قدرة البشرية في النظر إلى سمائها، فإن فكرة الاحتياط الفردي آخذة بالاتساع: افرزوا النفايات، لا تأكلوا لحم البقر، لا تستخدموا البلاستيك، لا تقتنوا الكثير من الثياب، لا تستقلّوا الطائرات كثيراً، اشتروا السيارة الكهربائية، إخترعوا طرقاً لإعادة التدوير، اهتموا بحديقتكم الخاصة... وكلها إرشادات جيدة طبعا. ولكنها متواضعة، مشروطة بـ"ضمير" كل منا"، وسعة عقله، وقدرته على الربط بين الحرب والتصحّر والفقر والجوع والتهجير القصري والجائحة.. هكذا عقول مركَّبة ليست جاهزة. فالبشرية الآن غارقة في هاتفها، لا تنظر إلى غيره، ولا ترفع رأسها نحو السماء، كما ينصحها شريط "لا تنظر الى فوق" (ليوناردو دي فينشي)، الذي خرج في الشتاء الماضي. وقصده: لا تنظر إلى النيْزك المدمّر الذي أثبت العلم أنه يقترب بسرعةٍ نحو الأرض.
البشرية لا تتعلم من تجاربها، لا القريبة ولا البعيدة.