على خط النووي بيروت... ماكرون يُفاوض
تعرّض الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، لسيلٍ من الانتقادات من المعارضة، التي اتّهمته بـ"التنازل" عن السيادة الوطنية، بعد اقتراحه إدراج الأسلحة النووية في المناقشة الجارية بشأن السياسة الدفاعية الأوروبية المُشتركة. حدث ذلك غداة خطابه عن مستقبل أوروبا في جامعة السوربون في 25 من الشهر الماضي (إبريل/ نيسان)، ضمن مقابلة نظّمتها الصحف الإقليمية لمجموعة إبرا، ونُشر فحواها مساء يوم 27 من الشهر نفسه.
تمايز ماكرون في طروحاته من التي عرضها الرئيس البولندي أندريه دودا، في تصريحه لصحيفة فاكت، باستعداد بلاده لنشر أسلحة نووية على أراضيها إذا قرّر حلف شمال الأطلسي (ناتو) تعزيز جبهته الشرقية، وهو ما ردّ عليه الكرملين بأنّ روسيا ستتّخذ الإجراءات اللازمة إذا تمّ ذلك. بعيداً عن خلافات الناتو وروسيا، يُميّز ماكرون جيّداً بين التشارك النووي على الصعيد الأوروبي ونشر الحلف هذا السلاح في دول أوروبية، فالأول هو ما يعنيه ماكرون، وما يسعى إلى تحقيقه، على الأقلّ نظرياً، لأنّه جزء من المسار المطلبي لفرنسا منذ خمسينيات القرن الماضي، من خلال دعوة باريس إلى تأسيس جيش أوروبي. أما طرح دودا فلا يثير الاهتمام الفرنسي، الذي جلّ ما يسعى إليه هو "فكّ الارتباط" مع الأميركي أولاً، والتركي ثانياً، من بوابة استبدال الناتو بجيشٍ أوروبي.
لم تستجب فرنسا للرغبة الأميركية مطلقاً على صعيد حلّ القضايا المطروحة دولياً، لأنّ بينهما حسابات يجب تصفيتها، وملفّات عليهما تسويتها
لم تتقاطع يوماً المصالح الفرنسية والتركية حتّى في ساحات دول بسط النفوذ، على سبيل المثال؛ ليبيا والعراق ولبنان. هذا ما جعل الخلافات حاضرة دائماً في رسم السياسات الخارجية لكلّ من تركيا وفرنسا، ما جعل ماكرون يجد في الجيش الأوروبي طريقة دبلوماسية ناعمة لإبعاد تركيا عن أوروبا. ويبدو أن الكيمياء مفقودة بين إدارة جو بايدن الأميركية ورئاسة ماكرون؛ إذ ظهرت إلى العلن خلافات أوضحت هشاشة العلاقة بينهما، من مسألة التعاطي مع الهجوم الروسي على أوكرانيا، إلى مسائل مرتبطة بملفّ صفقة الغواصات مع أستراليا، التي أفشلتها أميركا، وصولاً إلى شراء الطاقة الأميركية بخمسة أضعاف سعر السوق، بعد فرض عقوبات أممية على روسيا، وقطع خطَّي النفط؛ نورد ستريم 1 و2 عن العمق الأوروبي. لم تستجب فرنسا للرغبة الأميركية مطلقاً على صعيد حلّ القضايا المطروحة دولياً، لأنّ بينهما حسابات يجب تصفيتها، وملفّات عليهما تسويتها، على رأسها الملفّ اللبناني الذي يعني كثيراً لفرنسا التي لطالما عرقلت واشنطن جهودَها.
في زيارته السريعة إلى بيروت، دعا وزير الخارجية الفرنسي، ستيفان سيجورنيه، في 28 من الشهر الماضي، إلى وضع حدّ للتصعيد بين حزب الله وإسرائيل تجنّباً لـ"السيناريو الأسوأ"، على حدّ تعبيره. وتؤكد دعوته هذه أنّ هناك تقاطعاً في المصالح بين فرنسا وأميركا، على خطّ الدعوة إلى التهدئة، وعدم جرّ المنطقة إلى حربٍ كبرى، لكنّ التقاطع هذا، لا ينمّ عن تلاقي مصالح، بل تعارضها. يحتاج الفرنسي إلى الهدوء على الجبهة الجنوبية في لبنان، من خلال التوصّل إلى انتخاب رئيس للجمهورية يحاكي الرؤية الفرنسية، لتحقيق الأمن والاستقرار لشركاتها المُستثمرة في الطاقة، وهي شركة توتال، أو بإعادة تأهيل مرفأ بيروت من خلال ما طرحه مجموعة من المسؤولين اللبنانيين والفرنسيين في مارس/ آذار الماضي، من خطّة لإعادة بناء المرفأ وتنظيمه، بعدما قدّمت شركة إكسبرتيز فرانس تقييماً للتوصيات المقدّمة لتطوير الأمن في المرفأ. أمّا الدعوة الأميركية إلى تهدئة الجبهة الجنوبية للبنان، فتتعلّق بمصالح إسرائيل، وبمشروعها المتجدّد وهو بناء الشرق الأوسط الجديد، الهادف إلى رسم المنطقة بما يخالف سايكس بيكو. والغريب، أنّ الرغبة الأميركية هذه تتلاقى مع الرغبة الإيرانية في شعارها؛ "وحدة الساحات"، الأمر الذي يدفع حزب الله إلى ضبط ضرباته، ويمنعه من الانجرار إلى حرب شاملة.
لم يزل الأميركي ينظر إلى الطموح الفرنسي الصاعد على أساس أنّه تهديد مباشر للنفوذ الأميركي في المنطقة
لم يزل الأميركي ينظر إلى الطموح الفرنسي الصاعد على أساس أنّه تهديد مباشر للنفوذ الأميركي في المنطقة. إذ منذ العدوان الثلاثي على مصر (1956)، الذي كانت فرنسا إحدى الدول المشاركة فيه، أخذت واشنطن موقف الحياد رغم التهديد السوفيتي بضرب العواصم الثلاث بقنابل ذرّية. الهدف الأميركي من أخذ الموقف الحيادي مرتبط بضرب أحلام باريس بعودة دورها إلى الساحة الدولية من البوابة المصرية. يُبعث طموح ماكرون من جديد إلى المنطقة، ولكن هذه المرة من البوابة اللبنانية، حيث تعمل الدبلوماسية الفرنسية على إيجاد مناخ مناسب لاستثماراتها في هذا البلد من جهة، ومن جهة أخرى تنظر باريس بحذرٍ إلى ما ستؤول إليه أمور النظام العالمي المزمع إقامته بالتوازي مع السعي الصيني والروسي الذي يهدف إلى تشكيل مجموعة من القوى الإقليمية، لهذا يعمل الفرنسي على ترسيخ القوّة الأوروبية بشتّى الوسائل. الجميع بات لديه أوراق ضغط ويطرحها على طاولة المفاوضات؛ ففي حين يمتلك الأميركي القوّة في التأثير على الواقع اللبناني، ويمنعه من السير في الخطط الفرنسية التي تتقدّم لطرح الحلّ، تمتلك فرنسا دوراً مُهمّاً في الاتحاد الأوروبي، إذ ترفع في وجه واشنطن الملفّ النووي الفرنسي لكي يكون بديلاً عن نشر النووي الأميركي في الدول الأوروبية.
لا يوجّه كلام ماكرون إلى روسيا، بقدر ما هو موجّه إلى واشنطن التي تقف عثرة أمام الخطّة الفرنسية المتجدّدة التي طرحها سيجورنيه على الرئيسين نبيه برّي ونجيب ميقاتي لدراستها، لإخراج لبنان من أتون التسويات في المنطقة. فانتخاب الرئيس في الوقت الحالي لا يرتبط بعجز الأطراف اللبنانية عن انتخابه، بل برغبة أميركية إيرانية متعلّقة بمصير المنطقة وشكلها المستقبلي. هذا ما دفع ماكرون إلى تقديم مقايضته المرتبطة بنشر النووي أو السير في الرغبة الفرنسية لإنهاء الأزمة في لبنان على أساس آخر مبادرة فرنسية. فهل ستكون الأيام المُقبلة على لبنان حاسمة لفرض التسوية الفرنسية، أم ستضطر الولايات المتحدة إلى مواجهة جبهة جديدة في القارّة العجوز، تقودها فرنسا لإبعاد نفوذها هناك؟