عملية إعادة تطويع غزة
كالعادة، ما تفشل إسرائيل بفرضه بالحرب، تحاول تحقيقه بالاتفاقيات اللاحقة، واتفاقية إعمار غزة بإشراف الأمم المتحدة ليست مختلفة، بل تجسيد لتواطؤ دولي، لترسيخ الحصار، بل واستعماله لإنهاء المقاومة، تحت غطاء الأمم المتحدة.
اما المنافسة المتوقعة على العطاءات، والتي تخضع لفيتو إسرائيلي، فتفتح الباب، على مصراعيه، لتجار الحروب على حساب العائلات المنكوبة، ليس الفلسطينيين والدوليين فحسب، لكن الأهم الشركات الإسرائيلية التي، دائماً، تأخذ حصة مهمة من الأرباح، إذ تجري، من خلالها، عملية توريد موارد البناء إلى القطاع المحاصر.
العملية مكشوفة، وإعادة لعملية بناء غزة بعد حرب 2012، لكنها بقيود جديدة، تتيح لإسرائيل تجميع معلومات تفصيلية عن العائلات والمؤسسات الغزاوية، وإخضاع عملية إعادة بناء المساكن التي دمرت تحت القصف لرقابة من إسرائيل، تستطيع استخدامها لعرقلة أو وقف البناء تماما. فوفقاً لنص الاتفاقية الموقعة بين السلطة الفلسطينية والأمم المتحدة، تخضع إعادة إعمار المساكن لعملية تدقيق ومراقبة، وفقاً لشروط، منها "الاعتبارات الأمنية الإسرائيلية فيما يخص استعمال مواد البناء" المزدوجة الاستعمالات"، أي المواد التي قد تشك إسرائيل باستعمالها ببناء صواريخ، أو متفجرات، وقد تكون الإسمنت أو الحديد أو البلاستيك، وفقا لقائمة الممنوعات الإسرائيلية.
من الواضح أن إسرائيل تريد استعمال عملية "إعادة الإعمار"، ليس لتثبيت الحصار تحت رعاية الأمم المتحدة ومن خلال السلطة الفلسطينية فحسب، بل كأداة لمعاقبة أهل غزة، إذ تستطيع، بناء على مبدأ الرقابة المسموحة في الاتفاقية، منع إعمار أو ترميم أي منزل أو عمارة أو مؤسسة فلسطينية، تتهمها بالانتماء إلى فصيل مقاوم، أو بمساندة المقاومة.
ولا ينحصر خطر البند المتعلق بمراعاة "الاعتبارات الأمنية الإسرائيلية" في سيطرة إسرائيل على العملية، بل يتعداها إلى توظيف الأمم المتحدة واللجنة الفلسطينية المشرفة على إعادة الإعمار، لجمع معلومات استخبارية لإسرائيل عن كل عائلة وحي سكني أو تجاري في غزة، أي تحويل إعادة الإعمار إلى عملية تجسس شرعية، تحت غطاءين، عربي ودولي.
الهدف الإسرائيلي من جمع المعلومات والاحتفاظ بحق الفيتو على منع دخول مواد بناء أو إعادة إعمار معلن، صرح بشأنه مارك ريجيف، الناطق باسم رئيس الحكومة الإسرائيلية، إن آلية الرقابة ضرورية "لمنع حماس من إعادة بناء البنية التحتية لقوتها العسكرية" وخصوصاً الأنفاق بين مصر وقطاع غزة.
لكن، قد لا تحتاج إسرائيل دائماً إلى فرض فيتو على البناء، إذ تستطيع الأمم المتحدة أن تقوم بذلك، لأن الآلية الموجودة في الاتفاقية، تلتزم بتنفيذ وتطبيق إجراءات الأمم المتحدة نفسها "ضد الإرهاب"، خصوصاً على المشاريع الكبيرة، بما في ذلك المدارس والمصانع، وإن كانت إسرائيل قد حاولت تطبيقها في البدء على المنازل والشقق والوحدات السكنية. أي أن الأمم المتحدة، عملياً، تلتزم بالتعريف الإسرائيلي للمقاومة الفلسطينية، أنها تنظيمات إرهابية، وتساهم ضمناً، بل وكأداة لضرب المقاومة الفلسطينية وإنهائها، وذلك كله يحدث في العلن، من دون اعتراض، لا من السلطة الفلسطينية، وهي الطرف الرئيس في الاتفاقية، ولا حتى من بقية الفصائل الفلسطينية، بما في ذلك حركة حماس.
ما نشاهده هو عملية ابتزاز إسرائيلية عالمية، تستغل دمار غزة ومأساة أهلها ومعاناتهم، فلا إعادة بناء من دون إحكام حصار، ومن دون إخضاعها لحسابات أمنية إسرائيلية، ولا عزاء للشهداء والجرحى.