عندما تحيي الجزائر ذكرى اتفاقيات إيفيان
احتفلت الجزائر، قبل أيام، بحلول الذّكرى الستين لاتفاقيات إيفيان التي فتحت الباب لاستقلال الجزائر بعد 132 عاماً من الاستيطان البغيض، وإثر حرب تحريرية كبرى دامت قرابة الثماني سنوات، وهي احتفالية رمزية تستدعي قراءة لتوازنات العلاقات الجزائرية الفرنسية وأدوار متغيرات الذّاكرة، الشّراكة الاقتصادية، الهجرة والعلاقات الجيوسياسية.
بداية، وهذا مُستغرب جدّا، جاء الاهتمام بالذّكرى غير متوازن من حيث الإثارة الإعلامية للموضوع، حيث شهد الإعلام الفرنسي، بكل أنواعه، تركيزا شديدا على الاتفاقية وما أنتجته من تداعيات على العلاقات بين البلدين، وإن جاء التركيز على الموضوعات نفسها التي تثيرها الحملة الانتخابية الرئاسية الفرنسية الحالية، أي الهجرة، الإسلام، الهوية، إضافة إلى رفض الاعتراف بالطبيعة الإجرامية لمشروع الاستيطان.
في هذا الصّدد، يمكن الإشارة إلى أغلفة المجلات الكبرى والصحف التي أفردت أعدادا وملحقات تناولت، من كل الجوانب، الذكرى، في حين أن الحدث لم يثر الاهتمام الإعلامي نفسه، من زخم ملحقات ومجلات، في الجزائر. وهذا الذي ننادي للقيام بتداركه في قادم الأيام من حيث كم الإعلام ومضمونه، وهو موضوع واسع، ربما له صلة أكثر بمنظومة حرية التعبير، الكفاءة والجاهزية لجهاز إعلام يكون في مستوى رفع تحدّي الدفاع عن رؤية وإدراك لأبعاد أحداث مفصلية وعدم ترك المجال لتناول أحادي الجانب، وخصوصا من المعتـدي والمستوطن، ليكون هو الراوي الوحيد لمسار تاريخي سيعمل فيه، بكل ما أوتي من قوة، على الدفاع عن نفسه وتبرئة ساحته من جرائم وإبادة يمكن تصنيفها، من دون مبالغة، جرائم ضد الإنسانية.
يشكّل ميدان الإعلام، معركة الصورة والرّمزية، المجال الأوّل لعدم التّوازن في العلاقات بين البلدين، حيث تعمل الطبقة السياسية والنُّخبة الفرنسية، في كل مرّة تُتاح لها الفرصة، على التّذكير بمسار تاريخي، تروي فيه وجهة نظرها ليكون ملّف الذّاكرة بين البلدين ذا اتّجاه واحد، شاهدنا منتجه متجسّدا في تقرير المؤرّخ بنجامين ستورا، الذي أكّد على رمزية العلاقة الشائكة، ولكن من دون أبعادها التي تطالب بها الجزائر من خلال ثلاثية الاعتراف، الاعتذار ثم التّعويض.
تعمل الطبقة السياسية والنُّخبة الفرنسية على التّذكير بمسار تاريخي، تروي فيه وجهة نظرها ليكون ملّف الذّاكرة بين البلدين ذا اتّجاه واحد
يشير مجال العلاقات المتردّدة بين البلدين، على أكثر من مستوى، منذ الاستقلال، إذا انطلقنا للحديث عن ذلك من خلال ملفّات جلاء فرنسا عن قواعد عسكرية كانت باقيةً فيها إلى ما بعد الاستقلال في الغرب الجزائري وفي الجنوب، حيث مواقع إجراء التجارب الكيميائية، بصفة خاصة، إضافة إلى ملفات التأميم للمحروقات ثم الهجرة، وصولا إلى المواقف الفرنسية من بعض القضايا التي كانت الجزائر ترافع عنها، وجاءت السياسات الفرنسية مناقضةً لها على غرار ملف الصحراء الغربية، إلى عدم توافق تام في المنطلقات والمصالح في سياسة كل بلد، وهو ما يمكن اتخاذه نقطة للحديث بشأن أداء الدبلوماسية الجزائرية في السنوات الأولى للاستقلال، امتدادا لما جرى الحصول عليه من مكاسب من خلال الاتفاقية ومسار المفاوضات للوصول إليها، وهو أداء، في ذلك الوقت، يمكن وصفه بالإبداعي، أدّى إلى حل عقد الملفات الشّائكة مع القوة الاستعمارية السابقة، وإنْ في إطار لا توازن بالنظر إلى ما حلّ، بعد ذلك، من تراجع للجزائر، على أكثر من صعيد، في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، بفعل خيارات سياسية واقتصادية لم تكن مجدية، وسارعت فرنسا لتعيد حالة عدم التّوازن في العلاقات، وتكون هي المؤثّرة، خصوصا في المجال الاقتصادي، حيث كانت هي الشريك الأول للجزائر والمستحوذ على قطاعات كثيرة من الاقتصاد الجزائري.
نصل، هنا، إلى ما بعد العشرية السوداء (الأزمة السياسية والأمنية لتسعينيات القرن الماضي في الجزائر)، حيث سارعت فرنسا، بذكاء استراتيجي، إلى جرّ الجزائر إلى ما كانت قد أنجزته، في 1995 مع تونس، ثم 1997 مع المغرب، من عرض لاتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي، كان يمكن للجزائر رفضها، لو لم تكن في تلك الظّروف من الانكشاف بعد عشرية سوداء كادت تقضي على الدّولة، حيث كان العرض غير متوازن، وانتهى، كما انتهى في تونس والمغرب، إلى تحقيق هدفين، إفشال الاندماج المغاربي الذي لم تكن فرنسا لترضى به، ثمّ رهن الاقتصاد الجزائري، وتداعيات ذلك من رهن لمستقبل بلدٍ كان يمكن أن يعيد تصحيح مسار المنطلق، وينجز مشروع بناء البلاد لتكون قوّة تجرّ، وهنا الإشكال بالنّسبة لفرنسا، معها المنطقة، غرب المتوسّط والمنطقة الساحلية الصحراوية، منطقة نفوذ تقليدي لفرنسا، إلى ذلك المشروع، وتصبح قاطرته رفقة قوى أخرى.
يجرّنا الحديث عن توازنات العلاقات مع فرنسا إلى موضوع شائك، وهو التدخّل الفرنسي السّافر في الشّأن الجزائري، ليس من حيث المساس بسيادته، بل بإدراج تاريخ الجزائر، هويتها واسمها في كلّ الخطاب الإعلامي والسياسي الفرنسي، على خلفية أي ذكرى أو حدث سياسي، على غرار ما نشهده، هذه الأيّام، من حملة رئاسية فرنسية، يمكن القول، بدون مبالغة، إنّ أكثر كلمات واردة في ذلك الخطاب، بمؤشّرات تحليل مضمون الخطاب الإعلامي والسّياسي، هي الجزائر، الهجرة المغاربية في فرنسا، وفي مقدمها الهجرة الجزائرية، الأكثر عددا، تاريخ الجزائر وملف الذاكرة، وصولا إلى قضايا الإسلام، الهوية وأيديولوجيات اليمين، خصوصا الاستبدال الكبير والإسلام السياسي.
تعرف الجزائر معاني الرموز التاريخية وقيمتها، وتقدر أهميتها في رفع تحدّيات المستقبل
عندما نشير إلى هذا، لا يمكن التّغافل عن وجود مرشّح يحمل، في دواخله ومخياله، صورة تلك الرموز ذات الأبعاد الثقافية، الإعلامية و السياسية، وهو إيريك زيمور، يهودي من أصول جزائرية، يتحدث ويرفع الصوت بكل تلك الإشكالات، ليجعل منها عناوين لحملة انتخابية سارع المرشّحون الآخرون، ومنهم الرئيس المنتهية عهدته المرشح ايمانويل ماكرون، إلى محاكاته فيها، رفقة الطبقة الإعلامية والمثقفة الفرنسية، ليشكل ذلك كله منطلق غضب الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، الذي سارع، في أكثر من حديث إعلامي، إلى انتقاد الوضع، خصوصا بعد ربطه بملفات سياسية فرنسية داخلية، حاولت فرنسا إثارتها، على غرار المهجرين غير الشرعيين، في حين هي امتداد لعدم التوافق بين البلدين في ملفات الصحراء الغربية، ليبيا والساحل التي تريد فرنسا إيهام المنطقة بأنها الطرف الوحيد المخوّل له التصرّف فيها والتحرّك في إطار ملفاتها.
قد تكون الذكرى، بالنتيجة، فرصةً لإجراء تدقيق لحالة تلك العلاقات ووضع التوازن فيها، لأن ذلك هو المفتاح لإعادة النظر في مشروع الجزائر لبناء بلد قوي، حيث يمكن، بالمناسبة، إثارة الإشكالات المؤلمة، أين فشل الجزائريون ولماذا، ثم ما هي الأدوات التي تمكنهم من رفع تحدّي القفز على تلك المشكلات وإنتاج منطلق جديد ناجح، مستقبلا؟
هناك، في تاريخ أي دولة، رموز تشكل الدافع إلى الانكفاء على الذات وطرح الأسئلة المؤلمة، ولعل ذكرى اتفاقية إيفيان، وفي يوليو/ تموز المقبل، ذكرى الاستقلال الستون، مهما كانت حالة البلد الآن، هي تلك النقطة التي يمكن الانطلاق منها للتدقيق في وضع الجزائر، والتوافق، مهما كانت الخلافات، وهي أمر طبيعي مثمر في مسار حياة كل الأمم، على منظومة قرارات/ سياسات نخطط لها، ونجعلها هي الهدف على المديين القصير والمتوسّط، ونستجمع لها أسباب النّجاح، مع التركيز، هنا، على الهوية الجامعة، الهدف المنشود والمشروع الذي علينا التعاضد لإنجازه.
تمتلك الجزائر، وهي تعرف معاني الرّموز التّاريخية وقيمتها، وتقدر أهميتها في رفع تحدّيات المستقبل، كل المقدّرات لتجسيد المنتظر منها، وفرنسا تدرك هذا، وتعمل، كلما سنحت لها الفرصة ووجدت مجالا خصبا للقيام بذلك، لهندسة عوامل كابحة للمشروع الجزائري. لكن، وهنا المحك، رمزية عيد النّصر (19 مارس/ آذار 1962، ذكرى توقيع الاتفاقية)، وعيد الاستقلال، بعدها، في يوليو/ تموز، ستكون المنطلق، حتما، لإعادة النّظر وفهم دروس هذا الاستقواء الفرنسـي وأسباب الانكشاف الجزائري.