عندما تحيّرنا محاولة انقلاب في ألمانيا
لا يصلُح، تماما، لتفسير الحدث الذي يبعث على الذهول، في ألمانيا الأربعاء الماضي، ذلك الحديث عن تنامي نزوعاتٍ يمينيةٍ متطرّفة في المجتمعات الأوروبية، تحقّق تعبيراتٌ عنها في أحزابٍ وتشكيلاتٍ مدنيةٍ نجاحاتٍ ظاهرة في مواسم اقتراع انتخابية (في إيطاليا أخيراً)، فللتنظيم الذي أعلنت وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر (إياها) كشفَه وإحباط مخطّطاته جناحٌ مدني وآخر عسكري يضمّ ضباطاً سابقين وجنوداً في الاحتياط، ويخبّئ أسلحة توفّر عليها من الجيش، ومن خططه ليس فقط إسقاط الدولة، وإنما أيضاً تأسيس جيشٍ موازٍ (أو بديل؟)، وكان يتهيّأ لاقتحام البرلمان وضرب عدّة مؤسّسات في البلاد التي يتوزّع عناصر هذا التشكيل، المدني والعسكري، في 11 ولاية منها (من 16 في بلدٍ تعدادُه 85 مليون نسمة).
تحتاج محاولة تفكيك الخبر عن التنظيم المذكور، واسمه "أبناء الرايخ" (أبناء الإمبراطورية)، إلى مغادرة ذلك الكلام عن يمينٍ أوروبيٍّ صاعد في ألمانيا وغيرها، وعن عنصرياتٍ شوفينيةٍ في المجتمعات الأوروبية، واعتباره تفصيلاً ضمن مسألةٍ أعرض، ألمانيةٍ محضةٍ في تمثيلاتها وعوارضها (ومخاطرها؟)، فلا متشابهات لها في هذا البلد أو ذاك، وإنْ يبدو مغرياً استدعاء مماثلةٍ بين ما في مدارك المنتسبين إلى التنظيم "المخيف" وما في أفهام الذين اقتحموا مبنى الكونغرس في واشنطن في يناير/ كانون الثاني 2021، احتجاجاً على "تزويرٍ" أقنعوا أنفسهم به، جاء بجو بايدن رئيساً وأقصى ترامب.
تفيد تقارير بأن عدد الألمان الذين أرادوا الانقلاب على النظام "ومصادرة الديمقراطية"، ولو بالسلاح، و"إسقاط الدولة" في التنظيم المنكشف أخيراً، نحو 11 ألفاً، فيما مؤيدوه ومناصرو أفكاره وطموحاته ربما ملايين. وفي المبتدأ والمنتهى، لا تحدُث الانقلابات، كبرى أو صغرى، فاشلة أو ناجحة، إلا بأشخاصٍ ثقيلين معدودين، أو بضع مئات، يكون في وسعهم تغيير وجهة الدولة والنظام. ولذلك، الأدعى العبور إلى أدمغة هؤلاء، لإسعافنا بتفسيرٍ يزيح فائضاً من الحيرة فينا، نحن العالمثالثيين، بشأن الذي لم يُعجب هؤلاء في بلدهم ونظامه ومؤسّساته، ألمانيا الدولة المتفوّقة صناعياً وتقنياً وعسكريا واقتصادياً، ولها مكانتها قوةً كبرى في هذه الصعد وغيرها، فضلاً عن متانة البناء الديمقراطي فيها، حيث تداول السلطة والتناوب عليها بكيفياتٍ بالغة السلمية، في أجواء من حرياتٍ عامة (وفردية) وفيرة، فكيف لمواطنٍ في السودان أو أفريقيا الوسطى أو اليمن أو سورية أو تشاد (أمثلة) أن يستوعب نزوعاً انقلابياً (مسلحاً؟) لدى عسكريين فيه، وشريحةٍ مدنيةٍ من نخبته، فبين المقبوض عليهم نائبة سابقة، وأمير التنظيم (تخيّلوا!)، واسمُه هاينريش الثالث عشر، أرستقراطي.
لعله أمرٌ نفسيٌّ إذن، لا صلة له بتقدّم في اكتشاف لقاحٍ ناجعٍ ضد "كوفيد"، ولا بإنتاج سيارات المرسيدس، ولا بعدد الألمان حائزي جوائز نوبل في الكيمياء والفيزياء، ولا بذيوع أسماء الفلاسفة الألمان في العالم (هل من يتذكّر أن ماركس ألماني؟)، ولا بشيوع مدرسة فرانكفورت في علم الاجتماع والنظرية النقدية. كأن هذه النجاحات، وغيرها التي بلا عدد، لا تكفي لشعور الألماني، في العموم، بالزهو، تماماً كما أن النجاح العظيم في نفض النازية وبناء مؤسّسات دولةٍ متقدّمةٍ وديمقراطية، استطاعت، في أزمنةٍ قياسيةٍ وشروطٍ صعبةٍ، أن تتجاوز هزائمها في حربين عالميتين، لا ييسّران للألماني موقعاً في العالم يستشعرُه حقاً له، ولبلده العظيم في الماضي ويلزم أن يبقى عظيماً، لكنه لا يُحرِزه لغير سببٍ وسبب. كأن الأمر ليس أبداً في أيّ من هذه المواضع.. إنه هناك، في شعور باطن في الشخصية الألمانية، الجريحة في غورٍ عميقٍ فيها، عندما ترى أنه بولغ كثيراً في تأثيمها، في ابتزازِها سياسياً ومالياً، في تصنيفها الذي لا يُراد له أن يزول شخصيةً مذنبةً أبداً، ومطالبةً بإثبات براءتها وشفائها دائماً، وبالاعتذار الذي يجب أن تواظب عليه لغير طرفٍ وطرف.
لا تماثل محاولة الانقلاب الألمانية الفاشلة محاولاتٍ انقلابية في أوروبا، كالتي أرادت إطاحة الرئيس ديغول في فرنسا في 1961، ولا التي نجح فيها فرانكو ورفاقه في إسبانيا 35 عاماً، ولا الانقلاب اليوناني في 1967، لا تماثل إلا نفسَها، لأنها محاولة انقلابٍ على فوقيةٍ يقترفها العالم ضد ألمانيا، البلد الذي يستشعر أهلوه أن غيرَه يأخُذ مطرحه المستحقّ عضواً دائماً في مجلس الأمن، وظلّ يدفع تعويضاتٍ لفرنسا ولإسرائيل، وآنَ له أن يعود إمبراطوريةً، صودرت منها الديمقراطية أو حوفظ عليها.
هل يحلّ تفسيرٌ كهذا الحيرة التي استبدّت بنا، ونحن نتلقّى خبراً عن تنظيمٍ له أمير يحاول انقلاباً مسلحاً و"إسقاطا للدولة" في ألمانيا؟ ربما.