عندما تختلط مشاعرنا المناخية بالثورية
تصف الكاتبة جيا تولينتينو في مقالتها في مجلة النيويوركر الأميركية "ماذا نفعل تجاه المشاعر المناخية" (10/7/2023)، حجم القلق الذي بات يسيطر على وجود الكائن البشري، إلى درجة لا نستطيع معها إطلاقا أن نقفز على تعريف عصرنا هذا بأنه لحظة "القلق الكبير"، فمفهوم "التقدّم" الحداثي يقترب يوما بعد آخر من حقيقة مصطلح "الانثروبوسين" (the Anthropocene)، والذي تتفق أغلب وجهات النظر على تعريفه بأنه التأريخ لبداية تأثير الكائن البشري على الأرض وعلى الحياة فوقها.
تحاول تولينتينو أن تضعنا هنا أمام سؤالٍ مربكٍ جدا: كيف نوجّه مشاعرنا المناخية القلقة باتجاه سلوكي أو خطّة معينة يمكنهما أن يجعلانا نسير نحو عالم أفضل للعيش؟ وأمام الجفاء الذي لا يزال يبديه كبار العالم تجاه الخطر المناخي، تسأل أيضا: ما هي درجات الذعر الكبرى التي يمكن أن يصل إليها الكائن ليتّخذ خطواته المتناسبة مع حجم ذلك الخطر المحدق؟
يتناسب هذا الوضع الكوميدي البائس مع عنوان كتاب روي سكوينتن "تعلم الموت من الانثروبوسين" الصادر سنة 2015، والذي من أغراضه البيداغوجية، كما صرّحت تولينتينو، أن نتعلم كيف نسير بهدوء وتحضر نحو موتنا المستقبلي باستعداد أقلّ للكارثة، وتوقعات أكبر للاقتراب من نهايتنا وعلى أيدينا، أي على يدي ما سمي "الإنسان العاقل".
لم يعد خافيا على أيٍّ منا حجم التشاؤم المتزايد تجاه المستقبل في عالمنا، والذي صار مادّة هوليوودية دسمة، تزداد يوما بعد آخر إبداعا وتفنّنا في تصوير الكارثة باعتبارها النهاية والمستقبل القريب، وقدرا لا مفرّ منه، لتحيط جيلها الحالي بغمامةٍ من التشاؤم صارت جزءا من تركيبتهم النفسية والفكرية والعقدية! ومن سخرية التقنية أن العالم الافتراضي يزداد واقعية كلما انغمسنا في هذا المزاج الأبوكاليبسي.
سلسلة آثار الجفاف والفيضانات والحرائق المتزايدة في المناطق الفقيرة صارت دليلا واضحا على الجناية الكبرى في حقّ هذه الشعوب المغلوبة على أمرها
وإذا كان الإنسان الغربي المعاصر قد تمرّس كعادته قبل شعوب الأرض الأخرى في الانسجام مع سوق العلاج السيكولوجي، فإن المشاعر المناخية القلقة باتت هي الأخرى مادّة جديدة لهذه السوق، فأشياء كثيرة صار يفقدها هذا الإنسان جعلته يدخل دوامةً من عقيدة الفقد الكئيبة، وجعلته ينظر إلى نفسه موقنا بأنه بالفعل كائنٌ تافه يعيش ليستهلك ولا يهتم إلا بنفسه!
مشاعر الإحساس بالذنب عند الإنسان الغربي ناتجة ليس فقط عن الإضرار بالكوكب وما فيه من حيواتٍ مختلفة، وإنما جرّاء الوعي بأن المتضرّر الأكبر من موجات التغير المناخي هم أيضا الفقراء والدول الفقيرة، فسلسلة آثار الجفاف والفيضانات والحرائق المتزايدة في هذه المناطق صارت دليلا واضحا على الجناية الكبرى في حقّ هذه الشعوب المغلوبة على أمرها.
بالإضافة إلى ذلك، من الأوجه الكوميدية البائسة في هذه الصورة العالمية أن الشعوب العربية والإسلامية التي كانت ولا تزال ترزح تحت ضغوط قلق كبيرة ومتنوّعة، تعي بعضها ولا تعي بعضا آخر، وبعد موجات الربيع العربي في 2011 ستجد نفسَها وقد تفاقم منسوب هذا الضغط النفسي بالأخصّ بعد تحطّم آمال شبابٍ عديدين، فصاروا أمام قلق وجودي متحوّر يجوز أن نصطلح عليه بـ"مشاعر قلق الربيع الديمقراطي"، مشاعر زادت كثافتها السلبية جرّاء الإحباط المتسلسل داخل أغلب بلدان الربيع. ولسوء حظهم، ستزداد نسب قلقهم هذا، بعد تنامي "مشاعر القلق المناخي" هي الأخرى، بالأخص في السنين الأخيرة التي ازداد فيها ظهور آثار ما يصطلح عليه الباحثون باسم "التسارع الكبير" لآثار فعل الإنسان في الكوكب، لنجدهم، في نهاية القصة، يرسمون صورة عن ثوارٍ يريدون تغيير أوطانهم في لحظات يشعر فيها العالم بقربه من النهاية!
العالم أمام محكّ كبير، وتحوّلات كبرى، سياسية ومناخية
وللأسف، هؤلاء الشباب الذين يلاحقون شبح الربيع أمام مأزق كبير مجدّدا، شديد التركيب والكوميديا السوداء. يجعلنا نعيد التفكير في صياغة سؤال الكاتبة تولينتينو صياغةً تناسب وضعنا، ليكون السؤال أولا: أي قلقٍ نواجه تحديدا؟ وهل نقدر أن نواجِه أيا من هذه المشاعر القلقة المتكاتفة المحيطة بنا من كل جانب؟ وكيف يتأتّى لنا ذلك؟ وأخيرا هل بمقدور هذا القلق أن يدمجنا في انشغالٍ عالميّ بطعم العدالة الإنسانية؟
لا نعتقد أن جيل المنطقة العربية الإسلامية بالأخص المتّسم بهشاشة أكبر، يملك من الرفاهية ما يؤهله لينعم ببعضٍ من حصص العلاج السيكولوجي. وللأسف، لا يملك الوقت أيضا الذي بات ينسلّ من تحت قدميه يوما بعد آخر، وهو يرى دول المنطقة تتفكّك واحدة تلو الأخرى وتغرق في فشلها المخجل بيد جنرالٍ هنا وضابط هناك.
بالفعل، العالم أمام محكّ كبير، وتحوّلات كبرى، سياسية ومناخية، وحسب عبارة الفيلسوف الألماني هانس يوناس فـ"المسؤولية الحضارية" باتت أكبر. وإذا أضفنا إلى ذلك نقد فيلسوف الائتمانية طه عبد الرحمن ما سمّاها فلسفة "إرادة طلب اللامحدود" التي عمّت بها البلوى في الحضارة المعاصرة، والتي ستهلكنا جميعا، رؤية للعالم لا تكتفي بهوس تخطي الحدود بل تجاوزت ذلك نحو تأسيس فلسفة العالم المعاصرة على محو الحدود في حد ذاتها، والتي اشتهرت بيننا باسم "ثقافة ما بعد الإنسان"، ثقافة الاستمتاع الاستهلاكي بآلام الإنسان، وهو يستوعب ما تعنيه فعلا عبارة ما بعد الإنسان.