عندما تغيب العدالة
تشهد مصر، أخيراً، تحولاً مقلقاً في مجال الجرائم الجنائية، خصوصاً التي تعكس غياب القانون وضعف منظومة العدالة بمختلف مكوناتها. وهي في الأصل ليست مُستحدثة، وإنما موجودة منذ زمنٍ بأشكال عديدة، ربما أشهرها الحوادث التي يرتكبها أبناء رجال الأعمال. ومنها حادث مروّع ذهب ضحيته أربعة غلمان صدمهم شابٌّ يقود سيارة فارهة بسرعة جنونية، وليس اللافت أنه نجل رجل أعمال معروف، وإنما ارتكاب شقيقه جريمةً مشابهة قبل سنوات. لكن هذا النمط من الجرائم، في العموم، موجود في كل المجتمعات، ويقتصر في العادة على فئاتٍ معينة من ذوي الحصانة بالسلطة والسطوة، وأصحاب النفوذ بالمكانة الاجتماعية أو بالثروة.
التحول الذي طرأ على المصريين هو اتساع نطاق حدوث تلك الجرائم بين الطبقات المتوسطة والدنيا في المجتمع، ما يؤشّر إلى تقلص "هيبة" الدولة وتراخي قبضتها عن توفير ما يلزم من الأمن العام، والجنائي تحديداً، في ترجمة عملية لغياب القانون وهشاشة المنظومة العدلية. والنتيجة، لجوء المجتمع إلى إقامة عدالة ذاتية، يأخذ فيها كل شخصٍ حقَه بنفسه. ففي أيام فقط، تعرّض طاقم تمريض في أحد المشافي المصرية إلى اعتداءات عنيفة بالسياط والجنازير على أيدي أسرة إحدى المريضات، بسبب ما اعتبرته الأسرة تقاعساً في علاج المريضة. وبعدها بيومين فقط، قُتل محام على يد أحد موكليه في قضية أحوال شخصية، ظنّ خلالها القاتل أن المحامي تواطأ مع الخصم (أسرة زوجته). وقبل ذلك، تعرّضت مدرسة في المرحلة الثانوية لاعتداء أولياء أمور لمنعها أبناءهم من الغش. وقبل أشهر، طعن بلطجي هارب من العدالة سيدة عجوزا بسلاح أبيض لإبلاغها عن مكانه. وذبح عاطلٌ جاره ثم قطع رأسه وسار بها في الشارع فخوراً بجريمته. ثم سقط رجل صريعاً من شرفة منزله على أيدي أسرة زوجته، لأنه تزوّج أخرى عليها.
هذه أمثلة على تلك النوعية من الجرائم الموجودة أصلاً في المجتمع المصري، لكنها زادت، أخيرا، بوتيرة متسارعة، وبدأت تصبح أكثر بشاعة ووحشية أياً كانت درجة تفاهة السبب. وفي هذا بالطبع مؤشّر مهم إلى اتجاه المجتمع المصري إلى العنف في تسوية خلافاته وإدارة العلاقات بين وحداته. لكن مغزى المؤشّر ليس استحداث العنف، فهو قائم ويتصاعد منذ سنوات. وإنما في اتساع نطاقه، ليشمل قضايا وخلافات ومواقف لم يكن المصريون يعالجونها بأنفسهم، لخطورتها ولارتباطها بضرورة توفر حد أدنى من القدرة التنفيذية والحصانة، أو على الأقل الحماية اللازمة للقائمين على إدارتها. وهي العناصر التي يُفترض أن تحتكرها حصرياً السلطات العدلية والأمنية في أي دولة. خصوصا أن كلفة تلك الإدارة الذاتية عالية، إما خسارة طرف حياته أو فقدان آخر حريته أعواما طويلة.
أما وقد صار المجتمع يتجاهل سيادة القانون، بعد أن غيّبتها الدولة بالتمييز بين المواطنين والتطبيق الانتقائي لعدالةٍ لم تعد عمياء، ففي ذلك نذيرُ خطرٍ على مستقبل المجتمع المصري، فتزايد الإقدام على تلك النوعية من الجرائم بجرأة، وربما استهانة، يجسّد ثقة مرتكبيها بعدم التعرّض للملاحقة، وأنهم في أمان من إنفاذ القانون. وإلا لما وقعت جرائم قتل أو تعذيب بسبب عدم تلقي خدمةٍ لائقة في مشفى، أو تمسّك موظف عمومي أو مُعلم بالنزاهة ورفض الفساد. ولو استمرّ هذا المنحنى هبوطاً، فسيستغني المجتمع لاحقاً عن المؤسسات العدلية بشكل كامل، ويحل مشكلاته وخلافاته بنفسه، ووفق الأدوات المتاحة لكل مواطن أو عائلة أو قرية. ويذكّرنا هذا بنظام القبيلة، حيث لا سلطة إلا لشيخها وكبارها، ولا قانون عاماً يطبق، وإنما ما توارثه القبليون عن أجدادهم.
صدق ابن خلدون في قوله "الظلم يُؤذن بخراب العمران". أو، بعبارة أخرى، غياب العدالة ينزع من الدولة جوهرها ومبرّر وجودها.