عندما تلعب تركيا خارج الملعب
تواترت تصريحات المسؤولين الأتراك بشأن عمق علاقة الحكم في بلدهم بالمُعارَضة السورية وتمسّكه بمطالبها، في محاولة منهم لامتصاص الغضبة الشعبية العارمة التي استثارها توجّه النظام التركي إلى التطبيع مع النظام السوري، وإعلاناته المُتكرّرة عن استعداده للعودة إلى العلاقة القويّة معه، كما كانت في فترة شهر العسل بينهما قبل العام 2011 وانطلاق ثورة الحرّية والكرامة. كما تعدّدت لقاءات المسؤولين الأتراك بوجهاء ومُعارِضين وقادة فصائل مُسلّحة سوريين لشرح موقف نظامهم، وتطمينهم على وضعهم ومستقبلهم. وكان لافتاً أنّ أجوبة المسؤولين الأتراك عن أسئلة الحواضن الشعبية الصريحة والمباشرة جاءت عامّةً وغيرَ مُحدَّدة.
لم تكن إعلانات أنقرة بشأن التوجّه إلى التطبيع مع النظام السوري سوى القشّة التي قصمت ظهر البعير، فقد تراكمت التوتّرات والاحتقانات بين السوريين، اللاجئين منهم خاصة، على خلفية الضغوط النفسية والاقتصادية والاجتماعية التي عانَوْها بسبب حملات التحريض العنصرية، وتعرّض سوريين للقتل بأيدي مواطنين أتراك، جديدها أخيراً هجمات قيصري (وسط تركيا) وغازي عنتاب (جنوب)، ونشر أسماء اللاجئين وأرقام بطاقات هُويّاتهم وسكنهم لتسهيل تحرّك العنصريين ضدّهم، وصمت السلطة عن التجاوزات، والانتقال من رفضها إعلامياً إلى تطبيقها عملياً عبر حملات ضدّ اللاجئين من غير حاملي بطاقات الحماية المُؤقّتة، وتمدّدها لاحقاً لتشمل حتّى حامليها، والبدء بترحيلهم قسرياً بعد احتجازهم وتعذيبهم وإجبارهم على التوقيع على إقراراتٍ بأنّهم عادوا بمحض إرادتهم طوعاً، مروراً بملاحقة نشاطات السوريين التجارية والصناعية، بدءاً بإزالة الكتابة العربية عن المحلّات إلى إغلاق محلّات الصرافة والتحويل، مع أنّها مرخّصة، وصولاً إلى دور تركيا في خسارة المُعارَضة المُسلّحة مواقعها في حلب.
تنبع خطورة تطبيع أنقرة مع النظام السوري من أنّه ينطوي على إقرار بشرعية الأخير وعلى حقّه في السيطرة على الأرض السورية كلّها
سُلِّمت حلب، التي كانت تربطها بتركيا علاقات اقتصادية قويّة ومتينة، إلى النظام السوري بعد نقل معظم آلات المعامل والورش الصناعية إلى الأراضي التركية، وانخرطت أنقرة في لعبة مناطق خفض التصعيد، وفي الدخول في مساومات على هذه المناطق مع النظام الروسي، وحصولها على ضوء أخضر لعمليتها العسكرية "غصن الزيتون" ضدّ قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في عفرين، وشرعنة نقاطها العسكرية في ريفَي حلب وإدلب. وكانت ثالثة الأثافي تدمير البعد الأخلاقي للثورة السورية، وتشويه صورتها ثورةً من أجل الحرّية والكرامة، بتحويل مقاتلين منها إلى مرتزقة في ليبيا وأذربيجان والنيجر خدمةً لتحرّكه الجيوسياسي، ولسعي تركيا إلى توسيع نفوذها في تلك الدول. لقد ترتّب على هذه الممارسات نشوء حالة انعدام ثقة بالحكم في تركيا لدى السوريين، وارتيابهم في أقواله وخطواته كلّها، وجعل وعوده الجديدة بعدم التخلّي عن المعارضة، وبعدم إجبارها على قبول حلول ضدّ مصالحها، محلَّ شكٍّ كبير، إذ يُنظَر إليها باعتبارها مُخدّراً لوقف التظاهرات والاعتصامات، لأنّ استمرارها يُفقده فرصة استخدام ورقة المُعارَضة للحصول على تنازلاتٍ من النظام السوري خلال مفاوضات التطبيع وتحوّلها في غير صالحه، إذ سيُوظّفها النظام السوري للضغط على تركيا لقبول مبدأ الانسحاب من الأراضي السورية، بذريعة رفض هذا الوجود، حتّى من المُعارَضة وحواضنها، التي دعمها سنوات.
تنبع خطورة تطبيع النظام التركي مع النظام السوري من فحواه، لأنّه ينطوي على إقرار بشرعية الأخير وحقّه في بسط سيطرته على الأرض السورية كلّها، وحسم الصراع لمصلحته، وسحب الشرعية عن المطالب الشعبية السورية في الحرّية والكرامة. وسيثير هذا احتمال حصول ضغط من تركيا على المُعارَضة السورية، السياسية والعسكرية، للقبول بالتصوّر الروسي التركي للحلّ في شمال غربي سورية، وعودة النظام السوري إلى المنطقة بصيغ مُوارِبة، مصحوباً بهجمات عسكرية مُنسّقة ضدّ المدنيين والعسكريين لوضعهم بين المطرقة (ضربات النظام وقوات الاحتلال الروسي) والسندان (الضغط التركي)، لتقليص قدرتهم على المناورة والحدّ من خياراتهم. يمكن اللجوء إلى تصدير بعض فصائل المعارضة المُسلّحة الموالية له للقيام بالمهمَّة، كما حصل في محادثات أستانة. ولم يلقَ اندفاع النظام التركي حماسة لدى النظام السوري في ضوء وجود مصالح وحسابات مُركَّبة على خلفية تعدّد الحلفاء، وضرورة مراعاة حساسياتهم ومصالحهم، واللعب على تبايناتهم، لتحاشي تقديم تنازلات سياسية تنهي سرديته عن انتصاره في الصراع، ما قد يقود إلى تأجيج الخلافات ضمن نواته الصلبة وتأليب حاضنته الشعبية ضدّه، خاصّة أنّ النظام التركي ما زال يربط التطبيع بوضع دستور جديد، وانتخابات، وحكومة شرعية تعتمد هذا الدستور.
جاء اندفاع أنقرة إلى التطبيع مع النظام السوري استجابةً لعوامل عديدة، داخلية وخارجية، في مُقدّمتها تطويق تحرّك "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا" في سعيها إلى إجراء انتخابات بلدية، لما لهذه الانتخابات من تأثير إيجابي في شرعية "الإدارة" السياسية محلّياً ودولياً، والعمل على قطع الطريق عليها بالاتفاق مع النظام، بما في ذلك التحرّك عسكرياً ضدّها بعد دفع المُعارَضة السورية إلى القبول بالتفاهم والاتفاق مع النظام السوري، وخوض معركة مُشتركة ضدّ "قسد". وتعاطى حكم حزب العدالة والتنمية مع القضية الكردية (يفوق عدد الأكراد في تركيا 20 مليوناً)، التي شكّلت ولا تزال عقدة السياسة التركية، بمرونة، فبدأ بالسعي إلى التخفيف من حدّتها عبر منح الكُرد بعض مطالبهم؛ تدريس اللغة الكردية في مناطقهم، وقناةً تلفزيونية تبثّ باللغة الكُردية، مع حلّ بعض المشكلات الخدمية والعمل على تحسين ظروف المعيشة في جنوب شرقي تركيا، حيث الكثافة الكردية، وفَتَحَ حواراً مع حزب العمّال الكردستاني وقائده عبد الله أوجلان، المُعتقَل في سجن في جزيرة إمرالي في بحر مرمرة، واتفق معه على بعض الخطوات العملية؛ خطّة خريطة طريق تبدأ بوقف إطلاق النار وانسحاب قوّات الحزب إلى جبال قنديل في كردستان العراق، لتتم تسوية أوضاعهم وإدماجهم في الدولة والمجتمع التركيَّين لاحقاً، وتبادل الأسرى. وعند تنفيذ هذه الخطوات، تقوم الحكومة بتعديل قوانين مكافحة الإرهاب، وتُحوِّلها إلى المجلس النيابي لإقرارها، وتبدأ المباحثات الرسمية بين الحكومة التركية وقيادة الحزب في جبال قنديل، يتلوها تعديل دستور 1980 وتضمينه الإقرار بالحقوق الكُردية. لكنّ العملية لم تستمرّ بسبب وجود جناح مُتشدّد داخل حزب العمّال الكردستاني له تحفّظات على خيار المصالحة، التي وافق عليها عبد الله أوجلان، وقيامه بعمليات عسكرية استفزازية لاستدراج ردٍّ من الجيش التركي يخلط الأوراق وينهي المفاوضات، وانفجار الثورة السورية، وإقامة حزب الاتحاد الديمقراطي (جناح حزب العمّال الكردستاني في سورية) إدارةً ذاتيةً في ثلاث مقاطعات عند الحدود التركية السورية، واحتدام الصراع الداخلي في تركيا على شكل النظام السياسي التركي، على خلفية سعي الرئيس رجب طيّب أردوغان إلى تحويل النظام النيابي نظاماً رئاسيّاً، ما دفعه إلى اللجوء إلى مغازلة القوميين الأتراك لتأييد مسعاه السياسي، فوظّف الورقة الكردية في كسب تأييدهم عبر التصعيد ضدّ التعبيرات السياسية الكردية، واعتقال نوّاب حزب الشعوب الديمقراطي، وإحالتهم على القضاء بتهم مُفبرَكة، والتخلّي عن مبادرة حلّ القضية الكردية سلمياً، والعودة إلى الخيار العسكري ضدّهم.
لم يستطع أردوغان الموازنة بين منطلقات حزبه السياسية، التي ربطت التنمية بالعدالة، خصوصاً بعد خسارته الرهان على نجاح الإسلاميين في تحقيق مكاسب راسخة في ثورات الربيع العربي، فعاد إلى تبنّي النزعة القومية التركية كما صاغها مُؤسّس تركيا الحديثة مصطفى كمال، المُلقّب بـ "أتاتورك" (أبو الأتراك)، القائمة على التمييز بين مكوّنات الشعب التركي على أساسٍ قومي/ عرقي، والعودة إلى الخيار العسكري في مواجهة الحراك الكُردي، ليس في الأراضي التركية فقط، بل في دول الجوار؛ سورية والعراق، حيث للكُرد نِسَبٌ سكّانية وازنة، فهاجم مواقع لحزب العمّال الكردستاني في إقليم كردستان العراق وأقام هناك قاعدة بعشيقة، وعمل على إقامة منطقة آمنة في طول الحدود السورية التركية (نحو 900 كيلومتر بعرض 30 كيلومتراً)، ونفّذ لأجل ذلك ثلاث عمليات عسكرية كبيرة: درع الفرات (ريف حلب)، وغصن الزيتون (عفرين)، ونبع السلام (رأس العين وتلّ أبيض)، احتل عبرها مساحات واسعة من الأرض السورية (نحو 10%) بذريعة أنّ الإدارة الذاتية تهديد وجودي للأمن القومي التركي. لقد أخطأ أردوغان عندما قلّل من أهمّية حلّ القضية الكردية، وتجاهله الانقسام الداخلي العميق بشأن خطوط قومية ومذهبية واجتماعية، ما كان يستدعي العمل على تعميق الاندماج الوطني، وترسيخ توافق سياسي واجتماعي، بإزالة أسباب الانقسام، فالمنطقة الآمنة، حتّى لو نُفِّذَت بشروط تركية، لا تحلّ القضية الكردية، لأنّها لا تقدّم للكُرد حلّاً لمعاناتهم القومية والاجتماعية والاقتصادية، بل تزيد من شعورهم بالاضطهاد والقهر، لأنّها ستضيف إلى مظلوميتهم فصلاً جديداً يُعمّقها ويزيدها مرارة. فالتخوّف من الكُرد في سورية والعراق وإيران حلّه بإنصاف الكُرد في تركيا ذاتها.
غدا الجلوس إلى طاولة التفاوض مع القادة الكُرد وبقيّة القوميات والإثنيات في تركيا للوصول إلى حلّ توافقي خياراً حتمياً
لقد فشل أردوغان في التعاطي مع الوضع السياسي التركي بواقعية، فاعتمد سياسة الهروب إلى الأمام بملاحقة تجسيدات القضية الكردية في دول الجوار بتجاهلٍ تامٍّ لدرس الصراع مع الكُرد، إذ فشلت محاولة تذويبهم وتحويلهم أتراكاً خلال قرن وأكثر. وعجز الجيش التركي عن حسم المواجهة عسكرياً معهم، وانقسم المجتمع التركي بشأن حلّ قضيتهم. فاعتماد الحلّ العسكري لن يُغلق الملفّ، لا في تركيا ولا في الدول الأخرى، بل سيُبقيه جُرحاً نازفاً يستنزف جهود دول المنطقة وشعوبها وإمكاناتها، يُفقدها استقرارها وفرص ازدهارها.
تكمن مشكلة النظام التركي في طموح قائده أردوغان، الذي يحاول تحقيق إنجاز استقلال تركي كامل عن الغرب، ولعب دور إقليمي ودولي كبير، فيغطّي على إنجاز أتاتورك في إقامة الجمهورية، ويمسح صورتَه، ويحلّ في محلّه في الوعي السياسي التركي. لقد وضع الخيار الأتاتوركي العرقي الجمهورية التركية في تصادم مع عامل موضوعي هو التعدّد القومي، وجعله بنداً ثابتاً في جدول أعمال الحكومات التركية المُتعاقبة، لا تستطيع تجاهله ولا تستطيع حسمه، لذا هي في صدامٍ معه منذ قيامها عام 1923، وستبقى على ذلك الحال، ما دامت لم تواجهه وتنهِه بإيجابية، فسياسة الهروب إلى الأمام بخوض الحروب، داخل البلاد وخارجها، غير مُجديةٍ في التعاطي مع قضايا بنيوية. لذا، غدا الجلوس إلى طاولة التفاوض والتفاهم مع القادة الكُرد وبقيّة القوميات والإثنيات في تركيا للوصول إلى حلّ توافقي خياراً حتمياً للخروج من المستنقع. وهذا إن حصل وعُدّل الدستور ليلبي مطالب الشعوب والأديان والمذاهب، فسينقل تركيا من دولة عرقية منغلقة إلى دولة تعدّدية منفتحة، ويفتح طريق الأمن والاستقرار وفرص الازدهار أمامها واسعاً. سيمنحها هذا وزناً كبيراً ودوراً مميّزاً في الإقليم والعالم.