عندما تلعب تركيا في الوقت الضائع
تعكس الخطوات التركية أخيراً بشأن حرب غزّة أزمة باديةً لدى الحكومة التركية في التعاطي مع منعرجات الأزمة، خاصة في شقّيها السياسي والدبلوماسي. وكانت أبرز هذه الخطوات الانضمام إلى دعوى الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضدّ دولة الاحتلال، وتعليق المبادلات التجارية معها. وهو ما يطرح أسئلةً بشأن توقيتها وغاياتها، علماً أنّ الموقف التركي من العدوان الإسرائيلي كان خجولاً، ولم يرقَ إلى تطلّعات قطاع واسع من الرأي العام في الإقليم كان يعتقد أنّ تركيا، بوزنها الجبوسياسي، يمكن أن تُحدث بعض التوازن أمام آلة القتل الإسرائيلية، أمام عجز الحكومات العربية وارتهانها للدول الغربية الكبرى.
بالطبع، لم يكن متوقّعاً من تركيا أن تحرّك قواتها المُسلّحة في اتجاه غزّة. لكن كان في وسعها أن تكون أكثر فاعلية من الناحية الدبلوماسية في مواجهة المجازر الإسرائيلية اليومية في حقّ الفلسطينيين، أقلّها قطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة الاحتلال، ووقف أشكال التعاون التجاري والاقتصادي معها. لم يتخطَّ الموقف التركي في بداية العدوان إدانة المجازر والمطالبة بوقف إطلاق النار. ورغم أنّ أنقرة سعت إلى نقل أدائها الدبلوماسي إلى طور أكثر تقدّماً، من قبيل استدعاء السفير التركي من تل أبيب احتجاجاً على العدوان، وإرسال مساعدات إنسانية إلى غزّة، وانتقاد ازدواجية معايير الغرب واستمرار دعمه دولة الاحتلال، إلا أنّ ذلك بقي محكوماً بحسابات جيوسياسية معقّدة، بعضُها على صلة بالتركة الثقيلة التي ورثها حزب العدالة والتنمية الحاكم في هذا الصدد، وتحديداً منظومة العلاقات التركية الإسرائيلية التي يعود تاريخها إلى 1949، حين كانت تركيا أوّل دولة إسلامية تعترف بالكيان الصهيوني، وبعضها الآخر على صلة بتطلعات أنقرة للعب دور الفاعل الإقليمي المُؤثّر، وهو ما يستدعي، من المنظور التركي، استيعاب تناقضات الإقليم وفهمها في ضوء المصالح التركية، التي تتحرّك، خاصة على الصعيدين التجاري والاقتصادي، ضمن الدائرتيْن الإقليمية (الإسرائيلية) والدولية (الأوروبية والأميركية).
شهدت العلاقات التركية الإسرائيلية نموّاً مطّرداً شمل مختلف أشكال التعاون العسكري والتجاري والدبلوماسي، قبل أن تعرف تراجعاً ملحوظاً، في العقد المنصرم، بعد واقعة اعتداء البحرية الإسرائيلية على أسطول الحرّية الذي كان في طريقه إلى ميناء غزّة من أجل كسر الحصار المفروض على القطاع (2010). هذا التراجع، الذي تزامن مع تنامي الدور التركي في ملفّات إقليمية وتحديداً في الملفّ السوري، منح الحكومة التركية هامشاً لاختبار نفوذها الإقليمي، فقدّمت نفسها دولةً تنتصر لثورات الربيع العربي، وتعارض حكم العسكر (تحديدا في مصر بعد 2013)، من دون أن يُؤثّر ذلك على أوجه التعاون العسكري والتجاري بين الطرفيْن، إذ ظلّت تركيا تُعدّ أهم شريك تجاري لدولة الاحتلال في الشرق الأوسط.
كان يُتوقع أن يمنح سياق ما بعد ''طوفان الأقصى'' الحكومةَ التركية مواردَ جديدةً لإعادة التموضع في الإقليم، بعد أن تكشّفت ازدواجية معايير الدول الغربية، بشكل غير مسبوق، في تعاطيها مع الحرب الروسية الأوكرانية وحرب الإبادة الجماعية في قطاع غزّة، هذا ناهيك عن صعود فاعلين آخرين يتقدّمهم الرأي العام الغربي، الذي نجح نسبياً في إرباك حسابات الدول الغربية الداعمة لدولة الاحتلال.
قد تكون تركيا أدركت أنّ الأحداث بدأت تتجاوزها في الملفّ الفلسطيني، بعد نجاح الوساطتيْن القطرية والمصرية في إنضاج شروط التوصّل إلى وقف إطلاق نار محتملٍ بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، ونجاح إيران أيضاً، في فرض قواعد اشتباك جديدة بعد مهاجمتها العمق الإسرائيلي من دون حاجة لوكلائها. ولا شك أنّ ذلك يمثّل تحدّياً جيوسياسياً للسياسات التركية التي بدأت تفرز، على ما يبدو، تناقضاتها.
لقد كشفت حرب غزّة، وتداعياتها الإقليمية والدولية، هذه التناقضات، إن لم تكن قد فجّرتها بعد أن تبدّت محدودية الدور التركي في التعاطي مع تلك الحرب بكلّ مخلّفاتها المأساوية على الشعب الفلسطيني، ما يجعل خطواتها المتأخّرة تبدو وكأنّها لعب في الوقت الضائع.