عندما تُقتَل اغتصاباً في غزّة
مروّع ولا يكاد يُصدّق ما تكشّف عن الأيام الأخيرة من حياة الطبيب الغزّي عدنان البرش. ... هل تتذكرون طلّته الرزينة، المتألّمة لكن الصلبة، على قنوات التلفزة العربية في الأشهر الأولى لطوفان الأقصى؟
في المستشفيات التي حرصت إسرائيل، حفيدة الهولوكست ومُعيدة إنتاجه في اللحم الحيّ لمئات الآلاف من الغزّيين، على قصفها، كان الطبيبان عدنان البرش ومحمد أبو سلميّة حارسي الدم الفلسطيني في تلك الأيام العصيبة التي أُهرق فيها دم غزير، داخل منشآتٍ يُفترض أن تتمتّع بالحماية الدولية.
لا هو ولا أبو سلميّة قبلا التخلّي عن مسؤولياتهما الأخلاقية إزاء شعبهما الذبيح. بقيا في المستشفيات، وتحديداً في مجمع الشفاء الطبي الذي شهد المذبحة، الذي شهد نقل الرُضَّع الخُدَّج من مكان إلى آخر، بينما عصابات يوشع بن نون تُحاصر المستشفى وتقتل وتعتقل وتُهين أكرم الناس الذين أبيدوا على مرأى العالم كله.
كان الدكتور عدنان البرش رئيساً لقسم العظام، وكان أبو سلميّة مديراً للمستشفى، وكانا صوت الناس، صوت شعبهم. يقاومان حتى آخر قطرة دم عن شعبٍ سُفك دمُه أنهاراً، فتتصل بهم وسائل الإعلام فيضعون أولئك الذين يضعون ساقاً فوق أخرى في بلادهم، بين عائلاتهم، في صورة شعبٍ تُمسح عائلاتٌ كاملة منه من السجلات، لأنّ ثمة قاتلاً لا يشبع من القتل، لأن دولاً كبرى لا تريد أن ترى الضحية، ولأن على الفلسطيني أن يخوض وحده حرب تحرّره من أسوأ احتلال في التاريخ.
بعد اقتحام مستشفى الشفاء، اعتُقل أبو سلمية، بينما رفض البرش البحث عن النجاة، بل توجّه إلى مستشفى كمال عدوان، ليكون في خدمة شعبه، ثم إلى مستشفى العودة حيث اعتُقل في ديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي. كان آخر ما كتبه قبل أن تنقطع أخباره، على منصّة إكس: "نموت واقفين ولن نركع، ومثل ما حكيت ما يبقى في الوادي إلا حجارتو، وإحنا حجارتو". ... هل يذكّركم هذا بشيء؟ إنها رواية "اللاز" للجزائري الطاهر وطّار، حيث ثمّة من يؤرّخ لثورة أخرى انتصرت بعد ثمن باهظ جداً، فمنذ متى كان ثمن التحرّر بخساً؟
نحو خمسة أشهر من الاعتقال والرجل يتعرّض للتعذيب والضرب، قبل أن يُعلن استشهاده في إبريل/ نيسان، وقبل أن تتكشف وقائع ذبحه غير الرحيمة، فقد تعرّض الرجل لما هو أسوأ من التعذيب والحرمان من النوم والطعام. لقد اغتُصِب.
تبثّ شبكة سكاي نيوز البريطانية تقريراً عن أيام البُرش الأخيرة. وصل إلى سجن عوفر بعد حفلة تعذيب في حالةٍ يُرثى لها. كان عارياً من الجزء السفلي من جسده، وكان واضحاً أنه تعرّض لاعتداء وحشي عندما ألقاه حرّاس السجن وسط الساحة وغادروا. لم يكن قادراً على الوقوف، وبعد دقائق من إدخاله إلى غرفته كان قد فارق الحياة. ... يقول تقرير القناة، إن البرش تعرّض للاغتصاب، حرفياً، ويبدو أن وطأة ما تعرّض له أفضت إلى استشهاده. ... أي قهر هذا يا الله!!
نحن هنا والآن، في القرن الحادي والعشرين، حيث بإمكان أي امرأةٍ في بريطانيا أو سواها، حيث بإمكان أي كائن حيّ على ظهر هذا الكوكب، أن يُقاضي أياً كان بشبهة التحرّش، حتى لو كان كلمة يُفهم منها اعتداءً جندرياً، أو لمسة يدٍ في مكتبٍ لإحدى الشركات، حيث بإمكان أقسام الشرطة أن تعتقلك بشبهة ضرب كلبك بقدمك أمام المارّة. هنا والآن، في العالم نفسه، يُغتصَب الفلسطينيون ولا تتحرّك هيئة قضائية واحدة لجلب المجرمين إلى القضاء العادل.
دعك من هذا كله، فهل هم هناك في إسرائيل بشرٌ مثل بقية الكائنات التي خلقها الله، كيف يفعلون ذلك، وإذا فعلوا كيف تمرّ فعلتهم؟ كيف يصمت عنه من يملأ الدنيا ضجيجاً عن الضحية التي أنشأت دولةً لحماية خرافها؟ كيف يسوّغ لنفسه أن يكون الذئب الذي يتمشّى على رؤوس أصابع قدميه في جوار هتلر ونتنياهو؟
خلال اعتقال الدكتور محمد أبو سلميّة كانوا يُجبرونه على المشي على أربع. كسروا يديه الاثنتين، ووضعوا سلسلة في رقبته، وأجبروه على الزحف على ركبتيه مثل الكلاب. ... هذه هي الدولة التي تمنحها الولايات المتحدة صكّ براءة من كل جرائمها، هذه هي الدولة التي أنتجت مئات الافلام السينمائية عن عذابات شعبها في الحقبة النارية، وهي نفسها من تقتل شعبي هناك.