عندما يرفض تقرير المؤرخ الفرنسي الاعتذار للجزائر
استبشرت الصّحافة الفرنسية كثيرا بتقرير المؤرّخ بنجامين ستورا عن ملّف الذّاكرة في التاريخ المشترك بين فرنسـا والجزائر، عن الفترة الاستيطانية، بل إنّ صحيفة عريقة مثل "لوموند" أفردت زهاء عشر صفحات، في عددها ليوم 21 يناير/ كانون الثاني الحالي، عن الملّف وما يجرّه من تحليلات، آراء وتوجّهات انصبّت، كلُّها، على الإيحاء بأن الذّاكرة، بما احتواه التقرير من توصيات، سيُطوى ملفُّها لتحلّ محلّه علاقات هادئة لا يؤرّقها حمّام الدّم وعوائق المجازر التي يطالب الجزائريون بسببها بالاعتذار من القوّة الاستيطانية السّابقة.
ولئن لم يرشح من التقرير إلا جزء التوصيات التي كان مفادها، برمّتها، رفض مبدأ الاعتذار عن مجازر فرنسا في الجزائر، إلا أنّ المضمون كان منتظرا، ولعلّه يطرح أسئلة جديدة، طرح بعضها الكاتب في مقالة سابقة في "العربي الجديد" (31/7/2020)، عندما تمّ تعيين ستورا، عن الجانب الفرنسي، ليُعدّ تقريرا بشأن ملف الذّاكرة الذي تريد الجزائـر وفرنسا، الانتهاء منه، لأنه حجر عثرة في مسار العلاقات التي يُراد لها أن تكون أكثر ازدهارا وتطوّرا ممّا هي عليه، بسبب بقاء ملّف الذّاكرة يعكّر صفوها، كلّما أُثيرت مضامينُه في مناسباتٍ تاريخية لسياق استيطان دام 132 عاما، وكانت أحداثه، الثورات، المقاومات والمجازر، هي يوميات شعبٍ عانى من ليل طويل، كما أطلق عليه المجاهد الرّاحل فرحات عباس، ويجب أن يدفع من قام بذلك، من سياسيين وعسكريين، بل ومثقفين، فرنسيين، على مدار تلك الفترة الاستيطانية، الثّمن عن تلك الممارسات التي يمكن أن تحمل عنوانا كيّفته القوانين الدُّولية بأنّها جرائم ضدّ الإنسانية، وهناك حيثياتٌ لمحاكماتٍ واعتذاراتٍ، في السّياق التاريخي والواقع الدّولي، يجب أن تشكّل الأساس الذي ينبني عليه طيّ صفحة الذاكرة، حتما.
آراء ستورا والطّبقة السّياسية الفرنسية، بشأن ملّف الذّاكرة، معروفة، وكان يحتاج إلى تقرير رسمي، ليصبح مضمون الموقف التفاوضي لطرح وجهة نظر فرنسا في مسار العمل
بداية، يجب طرح إشكالية السّرعة التي أعدّ بها ستورا تقريره، ذلك أنّ ملفّا بهذا الثّقل والأهمية يحتاج إلى تمحيص وتريّث قبل الوصول إلى إطلاق أحكام واستنتاج توصياتٍ لم تُغيّر من الموقف الفرنسي قيد أنملة، إلا إذا كان التقرير جاهزا بما احتواه، لأنّ آراء ستورا والطّبقة السّياسية الفرنسية، بشأن ملّف الذّاكرة، معروفة، وكان يحتاج، فقط، إلى تقرير رسمي، ليصبح مضمون الموقف التفاوضي الذي على أساسه سيتمّ طرح وجهة نظر فرنسا في مسار العمل المشترك بين الدولتين، الجزائر وفرنسا، لطي صفحة ملّف الذّاكرة.
نرجّح أنّ مضمون التّقرير كان معروفا، سلفا، لأنّ ستورا كان قد عبّر عن رأيه، بشأن مسألة الاعتذار، منذ أعوام، عندما رفعت أصواتٌ برلمانية جزائرية صوتها، لتدفع السّلطة الجزائرية إلى سنّ قانونٍ يجرّم الاستيطان الفرنسي، حيث قال ستورا إنّ مسألة الاعتذار لا يمكن إثارتها أبدا، وهو رأي لا يعبّر عن وجهة نظر المؤرّخ، المتجرّد والموضوعي، بل هو رأي شخصي، باعتبار أنّ ستورا معنيٌّ بملّف الذّاكرة، لانتمائه إلى فئة الأقدام السّوداء، أولئك الأوروبيين الذين غادروا الجزائر أشهرا قبل الإعلان عن الاستقلال (ربيع 1962)، وباعتبار ذلك فإنّه يحمل مشاعر الأسف على تضييع وطنٍ تمتّع فيه، هو ومواطنوه، بكامل خيرات البلاد، في حين أنّ الجزائريين كانوا، أهال ومواطنين، من الدرجة الثانية، إضافة إلى مشاعر الحنين التي ما زال المعمّرون الأوروبيون/ الفرنسيون يعبّرون عنها كلّما أُثيرت ذاكرة "الجزائر فرنسية"، وهو مضمون ملّفات إعلامية وأعداد من مجلات تاريخية متخصّصة، تصدر كل عام تحمل مشاعر ذلك الحنين، وتضغط به على الحكومة الفرنسية، كي لا تعترف بالجرائم، بل وتسارع إلى المطالبة بحقّ العودة لبعضهم، على غرار فئة "الحركى"، أي الجزائريين الذين ساندوا القوات الاستيطانية، وفرّوا مع فلول العسكر الفرنسيين في 1962، ولتطالب، لبعضهم الآخر، بالتّعويض عن أملاكهم التي يقولون إنهم ضيّعوها وهم يغادرون، زعما، الجزائر، خوفا من انتقام الجزائريين غداة حصول البلاد على الاستقلال.
هذه هي شخصية ستورا، وهذا مضمون تقريره، وهو ما يجب المسارعة إلى استدراك إشكال القبول به طرفاً في لجنة طي صفحة ملف الذّاكرة، ثم اعتبار أن ملف الذاكرة ليس تقريرا يكتب، ولا توصيات يُنادى إلى فرضها لحل معضلة التاريخ، بل الأمر يتعدّى ذلك إلى مسار مفاوضاتٍ، تُربط بملفّات أخرى كبيرة، لها الدرجة نفسها من حيوية ملف الذّاكرة.
السّلطة الجزائرية ترى في الذاكرة مسألة وجود، لأنّ معادلة الاعتراف/ الاعتذار ثم التعويض هي مسألة إعادة اعتبار لمكانة الجزائر ولتاريخها
على الجزائر المسارعة إلى تذكير فرنسا بأنّ التّقرير مرفوض شكلا ومضمونا، كما تمّ رفض قانون تمجيد الاستعمار/ الاستيطان الذي سنّه البرلمان الفرنسي في 2004. وعلى الجزائر المسارعة إلى فرض جملة من الاعتبارات، ترفع ملف الذّاكرة إلى مصافّ الملفّات الاستراتيجية التي دوّنها بقاء العلاقات واستمرارها، حيث إنّ ملف الذّاكرة هو مفتاح لملفات الاقتصاد، تدخّل فرنسا في الغرب العربي وفي العمق الاستراتيجي للجزائر، في المنطقة السّاحلية - الصّحراوية.
عندما نتحدّث عن المسارعة، فنحن نعترف بأنّ بعض الخطوات الجزائرية، في إطار محاولة معالجة هذا الملّف، اعتبرتها فرنسا مجرّد خطوات سياسية ليس إلا، في حين أن السّلطة الجزائرية ترى في الذاكرة مسألة وجود، لأنّ معادلة الاعتراف/ الاعتذار ثم التعويض هي مسألة إعادة اعتبار لمكانة الجزائر ولتاريخها، ولأنّ المواقف المماثلة، على الساحة الدُّولية، تحتفظ بتجارب اعتذار لم تحدث إلا بعد تغير معادلة الميزان الاستراتيجي للدولتين، المعنية بالاعتذار والمستفيدة منه، على غرار ما حدث بين اليابان وكل من الصين وكوريا، مثلا.
يجب الاعتراف بأنّ فرنسا تفقه هذه الاعتبارات، وعلى أساسها تمّ تضمين التقرير الخاص بالذاكرة ما تجترّه الدولة الفرنسية من مواقف وما تريد اعتباره مسلماتٍ لا يمكن التنازل عنها. وهنا يمكن للجزائر، برفض التقرير، التعبير عن الموقف الحقيقي من الملف، باعتباره لا يحمل حنينا ومشاعر ذات صلة بإعادة اعتبار تاريخية، بل هو موقف استراتيجي بحجم المواقف التي يحب أن تتغير في موازين العلاقات الفرنسية – الجزائرية، وعلى الأصعدة كافة.
يرى علماء الاستشراف أنّ عالم ما بعد كورونا جديد، ويرجّحون أن فرنسا، على وجه الخصوص، ستخرج منهكة استراتيجيا واقتصاديا من الجائحة
هناك، الآن، في كفتي الميزان، ملّف الذّاكرة والملفّات المرتبطة به، ولا يمكن لأيٍّ منها التحرّك إلا بإعادة الاعتبار للذاكرة من خلال المعادلة المذكورة، وما يرتبط به من فكّ الارتباط بفرنسا على مسار كل الملفات، واعتبار أن العمق الاستراتيجي، في غرب المتوسط، الجوار المغاربي والمنطقة الساحلية – الصحراوية، مسائل حيوية، ذلك أن التساهل الفرنسي في التعامل مع الاتحاد المغاربي، ملف الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، ثم التدخّل العسكري في العمق الاستراتيجي المغاربي، كلها مسائل مرتبطةٌ بالموقف من ملّف الذّاكرة الذي ترى فرنسا مجرّد التّنازل فيه إشارة إلى إمكانية فتح باب النّقاش، بشأن تلك المسائل، وهو ما يجب أن تتحيّنه السُّلطات الجزائرية بمساندة من الجوار، وبدعم من دول العمق الاستراتيجي للمغرب العربي، من ناحية، ومن منافسي فرنسا، على الشّراكة مع الجزائر والمغرب العربي، من ناحية أخرى.
يرى علماء الاستشراف أنّ عالم ما بعد كورونا هو عالم جديد، ويرجّحون، في هذا الصدّد، أن فرنسا، على وجه الخصوص، ستخرج منهكة استراتيجيا واقتصاديا من الجائحة، ومن التغيرات التي سيشهدها العالم، وهي الفرصة السانحة للمغرب العربي والجزائر، بصفة خاصة، تحيّنها لإعادة الاعتبار للمنطقة وتحويلها إلى منطقة مغاربية خالصة، بعيدا عن الرؤية التي سادت، قرونا، بأنّها الحديقة الخلفية للمصالح والنفوذ الفرنسيين ومدخل هذا كله، بل مفتاحه، هو ملف الذّاكرة الذي على الجزائر التمسك فيه بمصالحها كلها، واعتباره ملفا استراتيجيا، وليس مجرد ملفٍّ يسيره مؤرخون من هنا وهناك، ويمكن طيُّه بتقارير توحي باحتمال أكيد، وفق رأيها، للإبقاء على الإدراك الفرنسي نفسه، لمكانتها ولإمكانية إدامة وجودها ومصالحها في شمال أفريقيا، بل وأبعد من ذلك، جيو سياسيا، في القارّة برمّتها، وفي العالم.
ملّف الذّاكرة ليس سياسيا، بل يحمل طابعا استراتيجيا، لا يمكن لتقرير ستورا أن يكون هو مفتاحه
ننتهي إلى أن ملّف الذّاكرة ليس سياسيا، بل يحمل طابعا استراتيجيا، لا يمكن لتقرير ستورا أن يكون هو مفتاحه، لأنّ هناك أدوات التفاوض، السياسة بقراراتها، والاستراتيجية بكل اعتباراتها، ذلك أنّ العلاقة مع فرنسا هي محكّ الطموح الاستراتيجي والموقع الحقيقي لمكانة الجزائر في المنطقة، وللحفاظ على المصالح في المتوسط، المغرب العربي، مع إعادة قيادة قاطرة بنائه، ونحو الجنوب، بمنع التدخّل الفرنسي في السّاحل وفي الصّحراء.
ستورا مؤرّخ، مثل الأديب ألبير كامو، المولود في الجزائر، الذي كتب رواية حملت عنوان "الأجنبي"، باعتباره لو خُيّر بين أمّه ووطنه لأختار أمّه، أي فرنسا، عندما ثارت مسألة الموقف من الحرب التحريرية الكبرى للجزائر في 1954، ونال بها جائزة نوبل للآداب (على الرغم من كونه يساريا). وفي ذلك عبرة في أن من يحمل الحنين لجزائر غير مستقلة لا يمكن لآرائه أن تكون إلا من رحم مخيال التعالي الفرنسي... وتلك مسألة أخرى.