عندما يكتشف الحوثي شبكة تجسّس لأميركا وإسرائيل
تعزّز جماعة الحوثي آلة القمع في اليمن، بتجذيره ومأسسته، والأهم توسيع نطاقاته المجتمعية من العامّة إلى النخبة المحلية. وإذا كانت تهم التخابر، على اختلاف مسمّياتها، ظلت تكيّف وفقها سلطات الحرب المختلفة إجراءات الاعتقال وتقييد الحريات بحقّ معارضيها والمختلفين معها، فإن الجماعة ذهبت بعيداً بتدشين مرحلة جديدة وغير مسبوقة من القمع ربما في التاريخين، المدني والدبلوماسي، في اليمن وفي العالم، وذلك باعتقال عشرات من الموظفين في البعثات الدبلوماسية والمنظّمات الدولية والمحلية تحت مزاعم التجسّس لصالح المخابرات الأميركية والإسرائيلية، وهو ما يشكّل تحوّلاً في نطاقات الاستهداف، والذي له تبعاته الخطيرة، سواء على الصعيد السياسي أو الإنساني أو المدني.
تتطابق آلية القمع، بما في ذلك إجراءاتها ووسائلها الضبطية، بما في ذلك طريقة تخريجها مع الآلية التقليدية التي اتّبعتها جماعة الحوثي في إدانة خصومها، من إخفاء المعتقلين قسرياً وعزلهم عن العالم إلى بثّ فيديوهات مسجّلة تضم اعترافاتهم. وإذا كانت نمطية الاختلالات القانونية في مجمل الاعتقالات التعسّفية التي تديرها الجماعة، تتعدّد من انتزاع الاعترافات تحت التعذيب الى حرمان المعتقلين من حقّهم الطبيعي بوجود محام، ناهيك عن عدم وجود قضاء مستقل ونزيه يضمن لهم مستقبلاً محاكمة عادلة، فإن الاختلالات الإجرائية والقانونية في حالة شبكة التجسّس الأميركية- الإسرائيلية تصل إلى لائحة الاتهامات نفسها، ونوعيتها والمشمولين بالاتهام، إذ اتهمت الجماعة من خلال جهاز مخابراتها المعتقلين بتخريب مؤسّسات الدولة ومؤسّسات غير رسمية، واستهداف جوانب الحياة السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والزراعية والتعليمية بقطاعاتها ومؤسّساتها، واستهداف الهوية الإيمانية ونشر الفساد الأخلاقي عبر عقود من العمل المدني بإعداد الدراسات والرصد وتجنيد عملاء. وإلى جانب شموليّة لائحة الاتهام، جرّمت الجماعة المعتقلين ليس وفق عملهم المدني إبّان حكمها، بل إلى أكثر من أربعة عقود، أي منذ تأسيس العمل المدني في اليمن. كما أن قائمة المتهمين ضمت توليفة عشوائية من عاملين سابقين في البعثة الدبلوماسية الأميركية والمؤسّسات التابعة لها، وعاملين في وكالات الأمم المتحدة المختلفة، ومكتب مبعوث الأمم المتحدة، إلى جانب عاملين في منظّمات دولية ومحلية، ومن ثم فرض قسرية التجسّس على رموز الحياة المدنية والدبلوماسية وخلط وظائفهم المهنية وتوظيفها لأهداف الجماعة.
ومن جهة ثانية، تعكس الاتهامات التي طاولت العاملين في المنظّمات المدنية الدولية والمحلية بعمل دراسات لأوجه الحياة اليمنية، جهل السلطات الأمنية بمقتضيات العمل المدني أو تجييرها لأغراض أخرى، اذ تعدّ كتابة الدراسات البحثية والتقارير من صلب عملها، إلى جانب أن من المتّهمين، وهذا الأهم، مَن سبق وأن اعتقلته الجماعة منذ سنوات، مثل الموظف في السفارة الأميركية، عبد القادر السقاف، إلى جانب أربعة من موظفي الأمم المتحدة. وبعيداً عن أهداف حملة الاعتقالات وتوقيتها، فإنها تكشف ارتباك سلطة الجماعة، وأيضا أزمتها في إدارة علاقتها بالهيئات الدبلوماسية، وكذلك بالمنظّمات الدولية والمحلية.
تقتضي إدانة النشاط الدبلوماسي باعتباره نوعاً من العمالة للخارج، وفق أيديولوجية الجماعات الدينية، أن يتماشى ذلك مع سياساتها التاريخية المعادية للغرب، والذي يثبته تاريخ من القطيعة مع مختلف فعاليات النشاط الدبلوماسي المحلي، بيد أن جماعة الحوثي، وإن تحرص على تبنّي الأيديولوجية الإيرانية المعادية لأميركا، بما في ذلك تصعيد حالة العداء جرّاء الحرب في قطاع غزّة لاستثمارها داخلياً بوسم معارضيها أو العاملين في البعثات الدبلوماسية بالتخابر مع أميركا، فإن ادّعاء الطهرانية لتجريم الآخرين يقوّضه بالنسبة للجماعة منحى براغماتي يتمظهر في أشكال من العلائقية والاستثمار، إذ استفادت الجماعة، تماما كمعظم القوى السياسية اليمنية من مظاهر الحياة الدبلوماسية في صنعاء، سياسيا وثقافياً وتنموياً أيضاً، وذلك من خلال قنوات رسمية وغير رسمية، لعبت دوراً كبيراً في تصعيد الجماعة وتأهيل نخبتها السياسية، ممن بات الآن يقود جناحها السياسي.
من التخابر مع "دول العدوان"، بحسب الماكينة الإعلامية لجماعة الحوثي سابقاً، إلى التخابر مع أميركا وإسرائيل، لم يتغيّر شيء في طبيعة الانتهاك سوى التسمية
وبعيداً عن دخول السفارة الأميركية نفسها وسيطاً دولياً إبّان حروب صعدة الست لصالح الجماعة، والضغط على الرئيس السابق علي عبد الله صالح لوقف الحرب، فإن قيادات الجماعة انخرطت تماماً كالنخبة السياسية في الأحزاب اليمنية بتشبيك علاقاتها مع البعثات الدبلوماسية العاملة في صنعاء، ومنها السفارة الأميركية، إلى جانب استفادتها من منح التبادل الثقافي، بما في ذلك ترتيب زيارات لقيادتها إلى الولايات المتحدة ودول أوروبية، ما أسهم في تأهيل قيادات الصف الأول من جناحها السياسي. إلى جانب أن الهيئات الدبلوماسية نفسها عملت على تمكين قيادات الجماعة وفرضهم في مجمل الفعاليات التي تنظمها المنظّمات الدولية في اليمن وفي خارجه. وفي هذه السياق التاريخي القريب، لعب الموظفون اليمنيون في السفارات والمعاهد الأميركية الذين زجّتهم الجماعة في شبكة التجسّس الأميركية – الإسرائيلية أخيراً دور أهم القنوات التي عملت على تمكينها. ومن ثمّ لا تكشف محاولة تلفيق تهمة التجسّس على كوادر نوعية ووطنية ومؤهلة انتهازية الجماعة فقط، كونها أكثر المستفيدين منها، بل أيضاً أن إدانتها، وإن جرت لأغراض سياسية أنية، تعني إدانة قطاع واسع من قياداتها، إلى جانب أن تبنّي سياسة عدائية حيال الهيئات الدبلوماسية، بما في ذلك مكتب مبعوث الأمم المتحدة في صنعاء باعتقال موظفيها، يضاعف من عزلها دوليا في ظرف استثنائي خانق تعيشه الجماعة.
في المقابل، تكمن قسرية مضاعفة في مضامين اتهامات جماعة الحوثي العاملين في وكالات الأمم المتحدة والمنظّمات الدولية والمحلية بالتخابر مع أميركا وإسرائيل، وذلك باتهامات ملفّقة ومسيّسة، تستند إلى طبيعة عملهم البحثي، بغرض تشويه النخبة المحلية أولاً، بتاريخها، ومؤسّساتها، ومن ثم ضرب مقاصد نشاطها الإنساني والإغاثي والحقوقي، الذي يعني استهداف نخبة مدنية، قدّمت عبر عقود من العمل خدماتها للمجتمعات المحلية في اليمن. وإذا تجاوزنا معطىً تاريخياً مهماً، أن المنظومة الحقوقية الدولية والمحلية بمؤسّساتها ونشطائها، ومنهم من يقبع حاليا في سجون صنعاء بتهمة التخابر مع أميركا وإسرائيل، قد عضّد مظلومية الجماعة في بياناتها وتقاريرها الحقوقية، بما في ذلك الضغط لإطلاق سراح قياداتها في سجون نظام صالح سابقاً، فإن الجماعة، ومن خلال منظّماتها المدنية، استفادت من المنظّمات الدولية بتمويل أنشطتها ومشاريعها المجتمعية، بحيث أصبحت في سنواتٍ قليلة تحتكر أكبر حصّة من التمويل الأجنبي.
الأسوأ في حرب تجعل من القمع أداة للسياسة تبعاتها الكارثية من تقويض ما تبقّى من أشكال الحياة المدنية في صنعاء بمؤسّساتها ورموزها
ومن جهة ثانية، يجدُر هنا التركيز على طبيعة العلاقة بين جماعة الحوثي بوصفها سلطة أمر واقع، ووكالات الأمم المتحدة العاملة في صنعاء وفي المناطق الخاضعة لها. وبعيداً عن اختلالات أدائها الميداني، كانت الجماعة الطرف الرئيسي الذي يهيمن على إدارة نشاطاتها وتوجيهها وأيضا اقتسام التمويل، إذ خضعت البرامج والمشاريع التي نفذتها وكالات الأمم المتحدة طوال سنوات الحرب لإشراف الجماعة رأسا، فإلى جانب تأسيسها مجلساً يدير العمليات الإنسانية، ويتقاسم مع الوكالات الأممية تنفيذ البرامج، فإنها فرضت مشرفاً ميدانياً يراقب عملها، إضافة إلى أنها حصرت تصاريح العمل والتنقّلات للعاملين الأمميين في جهاز المخابرات، فضلا عن أن هذا، وفق تصريحات سابقة، دفع الوكالات الأممية إلى توسيع عملها في المناطق الخاضعة لها، ناهيك عن استفادتها من برامجها، سواء "الغذاء العالمي"، وذلك بتوجيه المساعدات الإنسانية لصالح مقاتليها في الجبهات، أو دفع منظّمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) لطبع مناهجها الدراسية. واذا كانت الجماعة قد صعّدت صراعها مع الوكالات الأممية في السنوات الأخيرة، بما في ذلك اعتقال عاملين فيها. فإنه كان بغرض الضغط لتوجيه برامجها واستثمارها، وليس رفضها، ناهيك عن الاشتباه بأي أعمالٍ استخباراتية. ومن جهة ثالثة، وفيما يخصّ الاتهامات التي طاولت العاملين في المنظمات المحلية، على الرغم من استهدافها من أجهزتها الإعلامية والدينية، تسيطر الجماعة على العمل المجتمع المدني إشرافا ورقابة، وهو ما يجعل مزاعم التخابر ليس كيدية فقط، بل محاولة مكشوفة للابتزاز، إذ إن أي مخالفة في عملها تقتضي محاسبة العاملين وفق القوانين واللوائح اليمنية.
من التخابر مع "دول العدوان"، بحسب الماكينة الإعلامية لجماعة الحوثي سابقاً، إلى التخابر مع أميركا وإسرائيل، لم يتغيّر شيء في طبيعة الانتهاك سوى التسمية التي تحقّق قدراً أكبر من التدمير النفسي والتحريض مجتمعيا، إضافة إلى استمرار تقييد حرية عشرات من الأبرياء من الرجال والنساء والمقامرة بأرواحهم لتحقيق أهداف سياسية. وفي هذه الحالة تأكيد قدرة الجماعة على تحدّي أميركا والمجتمع الدولي باعتقال مواطنين عاملين في البعثات الدبلوماسية والمجتمع المدني، بيد أن نقل معركتها ضد خصومها قد يعني مقامرة سياسية لها عواقب عديدة، إذ إن استهداف البعثات الدبلوماسية والأممية سابقة لم تحدُث في العالم، تجعل الجماعة الوجه الآخر لحركة طالبان، إلى جانب انتهاكها تقاليد العمل الدبلوماسي، بما في ذلك التعدّي على القانون الدولي الذي يضمن حصانة العاملين في الوكالات الأممية والمنظّمات الدولية، إلى جانب مخاطر تعليق العمل الإغاثي والإنساني في المناطق الخاضعة لها، ومن ثم الإضرار بالشبكات الفقيرة في وضع اقتصادي كارثي، ناهيك عن أن اعتقال موظف في مكتب المبعوث يعني غلق الجماعة قنوات التواصل مع الدبلوماسية الأممية، ومن ثم تعطيل المسار التفاوضي لإنهاء الحرب، إلا أن الأسوأ في حرب تجعل من القمع أداة للسياسة تبعاتها الكارثية من تقويض ما تبقى من أشكال الحياة المدنية في صنعاء بمؤسّساتها ورموزها التاريخية من الآباء المؤسّسين، والذي يعني استهدافاً لليمنيين جميعا، إلى تدشين دورة أكثر ظلامية في المشهد المدني والحقوقي والثقافي، والتي تجعل أي مواطن يمني عمل أو يعمل في المجال المدني والثقافي ضحية قادمة.