عن أسباب تأخر الحسم في حرب السودان
بإطلالة شهر رمضان، نقترب من الذكرى السنوية الأولى لحرب السودان. لم يكن أحدٌ من الخرطوميين الذين خرجوا من بيوتهم لأداء العمرة أو الصيام مع الأهل يتصوّر أن ذلك الخروج من البيت لن تكون بعده عودة في المستقبل القريب. حتى بعد بدء المعارك، تصوّر أغلب الناس أنّها مسألة وقت، وأنّ الحرب لن تمتد إلى بيوتهم.
كان تبنّي قوات الدعم السريع استراتيجية غزو المناطق السكنية صادماً لجميع من اعتبروا أن بإمكان المعركة أن تنتهي بعد ضرب المقرّات العسكرية للقوة المتمرّدة. كان سكّان الخرطوم، الذين بدأ المتمرّدون في طردهم من بيوتهم والتمركز فيها من أجل تصعيب المهمّة على الجيش، كانوا الأكثر صدمة، أما الجيش فبدا لوهلة مكتوف اليدين، فلا هو قادرٌ على التمدّد الأرضي، ولا هو قادر على التوسّع في استهداف الأحياء السكنية.
كان السودانيون من البداية يبحثون عن التطمينات، كما كانت تريحهم الأصوات الكثيرة التي كانت واثقة من حسم الجيش السوداني المعركة. لم تنبع هذه الثقة فقط من الانحياز للجيش في معركته ضد المليشيا المتمرّدة، وإنما أيضاً من القياس على تجارب سابقة ومحاولات تاريخية فاشلة لاحتلال الخرطوم. كانت هذه التطمينات تدفع إلى الصبر والانتظار. كان السوداني يعتبر، في قرارة نفسه، أن الجيش الذي قاتل عشرات المجموعات المتمرّدة، وفي مقدّمتها جيش الحركة الشعبية الجنوبية، لا يمكن أن تهزمه مليشيا. ومن عبارات سمعناها في الأيام الأولى للحرب من محللين وخبراء عبارة لصديق سوري، قال فيها بحزن: "نحن أيضاً ظننا في البداية أنّ الحرب لن تستمر طويلاً".
وجود أطراف مختلفة، منها ما هو إقليمي ومنها ما هو داخلي، مساندة للقوات التي نحب أن نطلق عليها اسم "الجنجويد"
كلما امتدت الأيام بهذه الحرب أذكر هذه الجملة. يتّضح الآن أن الأمر تجاوز مفهوم العام الماضي، الذي كان ينظر إلى المشهد بشكل ثنائي حرباً بين الجيش و"الدعم السريع". يشبه هذا ما يحدُث في سورية وفي اليمن، التي لم يعد كافياً حصر تعقيداتها وتداخلاتها في مجرّد انقلاب على الشرعية.
ننتبه اليوم إلى وجود أطراف مختلفة، منها ما هو إقليمي ومنها ما هو داخلي، مساندة للقوات التي نحب أن نطلق عليها اسم "الجنجويد". أسباب هذه المساندة وتلك المراهنة على نجاح مخطّط السيطرة على مفاصل الدولة والحكم متعدّدة، فهناك فوائد ومصالح يمكن أن تتيحها لهذه الأطراف سيطرة المليشيا على البلاد. من جانب آخر، اختار بعضهم هذا الاصطفاف، لأنه ظهر له، وفق حساباته، أن معسكر محمد حمدان دقلو (حميدتي) هو الأقوى، وأن الانحياز له رهانٌ على المنتصر.
كيف استطاعت قوات حميدتي أن تظهر بمظهر الجيش الموازي المتفوّق على أي قوّة مسلحة أخرى؟ يعيدنا هذا السؤال إلى موضوع طبيعة الحرب والإيمان، الذي مرّ بفترة تزعزع، بقدرة الجيش على الحسم السريع بأقلّ الخسائر. لا يمكن الإجابة عن هذه التساؤلات من دون التأكيد على حقيقة أنّ هذه الحرب لا يمكن قياسها على أيّ حربٍ أخرى، فعلى الرغم من أن أصوات البندقية لم تهدأ في السودان منذ ما يسبق استقلاله، فإنّ الحقيقة أنّ هذه الحرب ليس لها مثيل في التاريخ الوطني، بل ليس لها مثيل في الحروب الإقليمية.
لا يمكن تشبيه حميدتي بقائد بحركة العدل والمساواة خليل إبراهيم، الذي وصلت حركته الدارفورية المسلحة قبل سنوات حتى تخوم الخرطوم، كما لا يمكن تشبيهه بالحوثيين الذين أخذوا وقتاً طويلاً حتى استطاعوا السيطرة على العاصمة اليمنية. كلّ هذه التشبيهات، التي يلجأ إليها المحلّلون، ومعها تشبيهات بقوات خليفة حفتر الليبية أو بقوات التيغراي الإثيوبية، تصلح للتقريب بشكل كاريكاتيري، لكنّها تظلّ بعيدة عن توصيف واقع الحال.
كانت دول مجاورة تكثف رهانها على المليشيا وتوفر لها السند الدبلوماسي
لا نتحدّث عن مجموعة غازية أو قادمة من الشرق أو الغرب، بل عن مجموعة عسكرية عالية التسليح والتدريب، كانت جزءاً من القوات الأمنية النخبوية. جعلها هذا الانتماء تتوزع، بحكم عملها ومهامها، في جميع أنحاء البلاد، خصوصاً في العاصمة الخرطوم، من خلال التمركز في مساحات حيوية، كالقصر الجمهوري والوزارات والقيادات العسكرية والمطار وغيرها من المنشآت.
الناس الذين كان يحزنهم ما كانت المليشيا تسميه سيطرة على مواقع مهمة في الخرطوم، كان يفوت عليهم تذكّر أن هذه السيطرة لم تكن إثر اشتباك، وإنما إثر تسليم في فعلٍ يمكن تشبيهه بخيانة حارس ما اؤتمن عليه من مبانٍ أو أموال. كانت هذه الصدمة، التي تحوّل فيها حُماة المكان إلى تهديد، من عوامل القوة التي جعلت بعضهم يؤمن بنجاح عملية السيطرة على الخرطوم. مع احتدام المعارك وقدرة الجيش على امتصاص الصدمة، ومنع المعتدين من السيطرة على المطارات ومقرّات أخرى ذات أهمية، ظهرت عوامل قوة جديدة لدى المليشيا، حيث تبنّت بجانب "استراتيجية المنازل" مخطّط فتح الأبواب للمرتزقة، خصوصاً من الجوار الأفريقي، بالتنسيق مع حلفائها الإقليميين. كان ضخّ هذه الدماء الجديدة مهمّاً من أجل تعويض الخسائر البشرية بمقاتلين محترفين وآخرين متحمّسين للحصول على مكاسب من مدّخرات السودانيين.
هاتان الاستراتيجيتان، فضلاً عن تدفق المال والدعم اللوجستي المتقدّم من وسائل اتصال وتشويش وسلاح، ساهمت في تطويل أمد الصراع. من جهة أخرى، كانت دول مجاورة تكثف رهانها على المليشيا وتوفّر لها السند الدبلوماسي، عبر منح الشرعية لقائد التمرّد، الذي جرى التعامل معه في أكثر من عاصمة وكأنّه لا يزال يتمتّع بصفته الدستورية. المنظمّات الإقليمية، التي تعتمد في ميزانيّتها على الدعم الخارجي والهبات، ظهرت أيضاً بدورٍ لا يتناسب مع المبدأ الذي تتبنّاه، والمتعلق بدعم سيادة الدول وتطويق حركات التمرّد. أما الدول الغربية فبدا موقفها متناقضاً ما بين إدانة السلوك غير الإنساني لمقاتلي الجنجويد والتردّد في تحويل هذه الإدانة إلى ضغوط فعلية.