عن الأصولية الغربية والأصولية في الإسلام
على الرغم من شيوع استخدام مفهوم الأصولية في كافة المجالات السياسية والفكرية والإعلامية، إلا أنّه يظل مفهوماً إشكالياً من حيث الفهم والتطبيق، فهذا المفهوم بما يحمله من دلالات مختلفة لا يعبّر تعبيراً دقيقاً توحي به لفظة الأصولية الرائجة حالياً، وخصوصا لجهة ما يتضمّنه هذا المصطلح من معاني الرجعية المعادية لكل تقدّم، ومحاولة العديد من الدراسات حصر الأصولية في الإسلام واعتبارها صفة جوهرية له، والقول إنّ الإسلام بطبيعته أصولي، الأمر الذي أنتج صراعاً كبيراً بين الأطراف التي توظفه في أحكامها الفكرية أو مواقفها السياسية أو دعاياتها الإعلامية، لدرجة أصبح معه النعت بالأصولية بمثابة شتيمة سياسية.
مشكلتنا كمسلمين مع الأصولية، كما يقول فهمي هويدي: "أنّ هذا التعبير أساساً لا أصل له في اللغة العربية، ولا أصل له في الخطاب الإسلامي"، فالأصولية قديمة قدم المسيحية ذاتها، وتعود جذورها إلى عهد الخلافات المعروفة بـ"الخريستولوجية"، المرتبطة بالفكر اللاهوتي المسيحي والمتعلقة بدراسة طبيعة السيد المسيح، وتمتد قروناً طويلة في سياق الصراع الكنسي – الغربي، حيث مارست هذه الأصولية أدوارها السياسية عبر تاريخها الطويل، والتي أنتجت حروباً وتصفيات مذهبية خارج وداخل المجتمع المسيحي نفسه، فمن الحروب الصليبية "حروب الفرنجة" إلى محاكم التفتيش الرهيبة التي أنشئت بقرار من البابا عام 1233م، والتي لم تكن إلا ثمرة لتحالف مدمّر بين الأصولية الدينية والأصولية السياسية التي أسست لحروب دينية بروتستانتية كاثوليكية استمرت مئتي عام تقريباً، وصولاً إلى الأصولية الغربية بمفهومها الاصطلاحي الحديث، والتي نشأت في الولايات المتحدة الأميركية كحركة إنجيلية مناوئة لتيار الحداثة الذي بدأ بغزو الكنيسة ابتداءً من نهاية القرن الثامن عشر.
فالأصولية كلمة يرتبط معناها الأساسي بالصراع الكنسي في الغرب حفاظاً على الأصول التي عبثت بها الأيدي عبر المجامع وفقا للأغراض السياسية والمصالح البابوية، أي أن فكرة الأصولية - السابقة في ظهورها وانتشارها على ظهور الإسلام- هي فكرة غربية انطلقت من ضرورة التمسك بما يعتقد أنّه مطلقات لا يقبل النقاش ولا المساومة، وكانت مشكلة هذا الفهم هي الجمود المطلق حول ما تعتقد أنه يقين وأنه لب الأصول المسيحية، على الرغم من كل التحولات والتناقضات التي مرّت بها منذ العهد الرسولي وما تلاه من مجامع كنسية كثيرة غيّرت في أصول المعتقدات المسيحية.
مفهوم الأصولية في الإسلام يكتسب طبيعته وفلسفته الخاصة ولا يمكن أن يمثل نسخة مطابقة للأصولية الغربية
أما الأصولية في الثقافة الإسلامية، وكمفهوم سائد متداول في وعينا العام وفي الخطاب العربي المعاصر، فترتبط بمفردات اشتق بعضها من فعل أصل وأصالة فهو أصيل، وتأصّل بمعنى صار ذا أصل، لتعبر بذلك عن حركة عقائدية، طريقها تأصيل التعاليم واستنباط الأحكام الموافقة للشريعة والحلول الكفيلة بمعالجة معضلات الإنسان والمجتمع والدولة، غير أنّها في الفكر الغربي تُربط بالحركة الأصولية الغربية المتعصّبة مع كل سلبياتها التي رسبتها في الضمير الغربي المسيحي بصورة عامة، والضمير الأميركي بصورة خاصة، ومما يلفت النظر في هذا المجال، تركيز الخطاب الاتهامي الغربي على الأصولية في الإسلام دون غيرها من الأصوليات المعاصرة، كالأصولية المسيحية والأصولية الصهيونية المسيحية والأصولية الهندوسية، لذلك، سرعان من ألبس مفهوم الأصولية في الإسلام مسمّيات سلبية، وأصبح من الشائع التوظيف الانتهازي لهذا المفهوم في مجال الصراع بين الغرب والإسلام، والتركيز على نقد البعد السياسي لهذه الأصولية من خلال إطلاق مفاهيم كالإسلاموية والتطرّف والتشدد والإرهاب والتعصب، وكذلك تصوير الإسلام على أساس أنه ديانة أيديولوجية أصولية تخفي في مكنونها مشروعاً أيديولوجياً عقائدياً معادياً للمشروع الغربي.
وبالتالي، فإن معنى الأصولية في الثقافة العربية الإسلامية يختلف عنه في البيئة الغربية، والسبب في ذلك يرجع لاختلاف ظروف كل منهما من حيث النشأة، والفكر، والعقيدة، فالأصولية في البيئة الإسلامية رمز لأهل الاجتهاد والاستنباط، ويُطلق على علمين هامين هما علم أصول الدين وعلم أصول الفقه، بينما في البيئة الغربية، عنوان على أهل الجمود والتطرّف والتدمير، بل إنّ هذا المصطلح غريب عن البيئة الإسلامية، ومقحم عليها بقوة الإعلام الغربي، فالغرب عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً، تحاول أن تلصق بالحركة الإسلامية وصف الحركة الأصولية بمدلولها الغربي، الذي هو على النقيض تماماً من دلالات هذا المصطلح في الفكر الإسلامي.
ختاماً، ينبغي التأكيد أن الأصوليين في الغرب هم أهل الجمود والتقليد الذين يخاصمون العقل والمجاز والتأويل والقياس، بينما الأصوليون في الحضارة الإسلامية هم علماء أصول الفقه وأهل الاستنباط والاستدلال والاجتهاد والتجديد، ووفقاً لهذا الفهم، فإنّ مفهوم الأصولية في الإسلام يكتسب طبيعته وفلسفته الخاصة ولا يمكن أن يمثل نسخة مطابقة للأصولية الغربية، بل يستند إلى أصول نقية ومتماسكة تحقّق مقاصد الشرع ومنافع العباد ولا تحتكم لأهواء البشر، فالإسلام لا يبرر الإكراه في الدين، بل يدعو إلى عقائده الخالصة، ودعوته الشاملة بالحكمة والموعظة الحسنة، فلا إكراه في الدين، هذه أصوليتنا الرحبة، والتي لا بد من تمييزها عن أصولياتهم المتنوعة، وتياراتها السياسية العنصرية، الإقصائية، لذلك من الظلم إقحام هذا المصطلح في الخطاب العام للعالم الإسلامي بالطريقة التي يتداولها الفكر الغربي، فما بينهما كما ما بين السماء والأرض من حيث المضمون.