عن البيوت حين تحزن
كان أحمد بن عبد العاطي الألوسي يمتلك بيتاً مليئاً بالصداقات والصدقات والطير وحلو الكلام، بالقرب من النهر في بغداد، علاوة على قطعة أرض من طرح النهر تحوم النوارس فوق أعالي أشجارها المثمرة بالمانجو أو البرتقال، وكانت له تجارة رابحة في الحرير وقافلة تُذهّب بالمحاصيل والتمور، وتعود محملّةً بالحرير والبهارات، إلّا أنّه في سنة هناك، كانت مليئة بالحروب والطواعين والسرقات ناحية الشرق، لم تعد قافلته لا بالحرير ولا حتّى بالبغال، التي كانت لا تقدّر بثمن، وتعرف مسالك الجبال والدروب وكأنّها حفظتها، والمحزن أيضاً أنّ أحمد بن عبد العاطي الألوسي لم يعد أيضاً، فقد اختفى تماماً بكل دنانيره التي كانت تملأ الدنيا بالحكايات والأسرار، حتّى قيل إنّه كان يدارى عملاته الذهبية في حوافر البغال.
جاريتان أرمينيتان فقط، في بيته العامر بعد غياب أحمد بن عبد العاطي الألوسي، كانتا في حزن وصمت، الأولى كانت صغيرةً في السنّ جدّاً، وكان أحمد الألوسي قد وعدها قبل شهور من اختفائه بأن يأخذها في الصيف إلى أرمينيا كي ترى أهلها وأمّها المريضة، والثانية كانت كبيرةً في السنّ ولم تعد تتذكّر الأهل، إلّا شكل أشجار قريتها في أعالي الجبال، وكانت أثيرةً لدى زوجة الألوسي، وتعرف أسرارها ودموعها.
ظلّ البيت كما هو، وتعارك الورثة على أرض طرح النهر، وكلّ واحد من الورثة كانت له حُجَّته ووصيته المحفوظة عن ظهر قلب، خاصّة حينما تأكّد للورثة أنّ أحمد الألوسي لن يعود أبداً، بعدما تفشّى الطاعون من أثر الجثث الكثيرة التي غطّت الجبال بعد انتهاء الحرب.
ظلّ بيت الألوسي على ترحابه ببعض الضيوف الخلصاء، وخفتت أضواء البيت شيئاً فشيئاً، ظلّت مكتبة البيت بمخطوطاته وعادة تلاوة القرآن في رمضان، وضيوف يأتون ببعرانهم من بعيد وتستظلّ بالأشجار المائلة، ونساء فقيرات يدخلن ويخرجن في صمت، وشبان يخرج بعضهم للحروب أو للتجارة، حتّى جاء اليوم الذي أعادت فيه زوجة الألوسي الجاريةَ صغيرة السنّ إلى بلادها على ظهر قافلة لأنّ أحمد الألوسي قد وعدها بذلك، ووعد الحرّ دين عليه وعلى أهل بيته، وقد خيَّرتها أيضاً ما بين أن تبقى هناك حرّةً، لو أرادت، أو تعود مع الرجال لو أحبّت ذلك، ولكنّ الجارية فضّلت ألّا تعود لمرض أمّها، التي كانت تدلّلها بجوار أشجار القرية، فملأت لها زوجة الألوسي قربتَين من الزبدة والتمور ومنحتها بعض الدنانير، وظلّت الجارية كبيرة السن بجوار زوجة الألوسي، حتّى ابتنت لها من حُرّ مالها بيتاً صغيراً في مساحة من طرح النهر كانت من نصيبها، وظلّت بها حتّى ماتت ترسل الشموع للكنيسة وتبكي على فراق سيّدتها وسيّدها.
اشترى البيت في ما بعد تاجر بنادق ومُصنِّع بارود له علاقة برحّالة بريطاني، كانت له علاقة بشراء مزارع الشاي في سيلان والهند، وأبقى البيت على حاله، إلّا بعض الأشجار التي أضافها من الهند أو سيلان، وصارت للبيت مهابةٌ ما، خاصّة لدى السكّان الفقراء من أهل المكان؛ هل لأنّ صاحب البيت كانت له علاقة بالسلطات، أم لشراسة شخصية به أصبحت من صفاته بعد طول أسفاره في البلاد المجاورة، وحمله للبنادق المتعدّدة الأشكال والألوان، التي كان أحياناً يطلق من فوّهاتها بعض طلقاته على الطيور، أم لذلك الفيل الذي كبر وتطاول في حديقته، أم لذلك الأسد الذي كان يحوم حول مدخل الباب، رغم الأسيجة من الحديد التي كانت تفصل خطواته وعيونه عمّن يدخل أو يخرج من البيت ليلاً أو نهاراً؟ ... حتّى جاء اليوم الذي اندثرت فيه حكاياتُ وصداقاتُ وصدقاتُ أحمد بن عبد العاطي الألوسي تماماً، إلّا يافطة صغيرة على رأس مشتل من أرض طرح النهر مكتوب عليها: "مشتل المهندس عايد بن مظفر بن أحمد بن عبد العاطي الألوسي، حاصل على المؤهّلات الزراعية للبستنة وهندسة الحدائق من مدارس الزراعة بإسطنبول".