عن التنوّع في ظلّ الوحدة
ثمّة أمور لافتة طبعت اجتماع قمة دول أميركا الجنوبية في برازيليا أخيرا، في مقدمتها دعوة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو إلى تخطّي الأيديولوجيا في العلاقات بين دول القارّة، والتمسّك بمبدأ "التنوّع في ظل الوحدة"، واعتماد التسامح والحوار واحترام الرأي الآخر، وقد شكّلت تلك الدعوة الصادرة عن زعيم اشتراكي معروف بتشدّده إيذانا بمرحلة انفراج في العلاقات بين دول القارّة التي عصفت بها رياح الاختلافات زمنا مديدا، وكان بعضُها لا ينأى عن بعض آخر فحسب، إنما يكايده ويخاصمه، ويعمل على تقويضه كما حصل مرارا في المشاركة في تدبير مؤامرات انقلابية أو دعم حركات مسلّحة مناهضة لهذه الحكومة أو تلك.
لم يسرق مادورو، بالتفاتته الذكية، الأضواء من خصومه الذين جاؤوا إلى القمة وفي جعبتهم كثير مما يريدون قوله ضده وضد حكومته فحسب، إنما أراد أن يؤسّس لمرحلة جديدة في العمل المشترك تنأى بدول القارّة عن النفوذ الأميركي، يشاركه في نظرته هذه الرئيس البرازيلي المضيف لويس إيناسيو لولا الذي عمَد إلى إطلاق جلسة ثانية لاجتماع القمّة بعد جلسة الكلمات البروتوكولية، عنوانها "حوار الرؤساء"، الهدف منها تكريس تقليد الحوار الذي يعتمد المواجهة والشفافية، وممارسة النقد بين الرؤساء الذين درجوا في السابق على الاكتفاء بما تقتضيه قواعد اللياقة، والتهرّب من طرح المشكلات الحقيقية التي تسود دولهم. وبالفعل، نجحت الجلسة بعدما قال الرؤساء كل ما في جعبتهم إلى درجة أنهم شتموا بعضهم بعضا قبل ان يبتسم أحدهم للآخر، بوصف صحافي فنزويلي ساخر، وقبل أن ينتهوا إلى نوع من الرضا المتبادل، والتوافق على السعي لرأب الصدوع القائمة بينهم، وتعزيز التعاون وصولا إلى التكامل الإقليمي تحت شعار "التنوّع في ظل الوحدة".
في جلسة الحوار الحرّ تلك، شنّ رئيس الأوروغواي اليميني لويس لاكال هجوما على حكومة فنزويلا، وقال إن الفنزويليين يريدون ديمقراطية كاملة واحترام حقوق الإنسان، وطالب بإطلاق سراح سجناء سياسيين، قال إن مادورو يحتجزهم. وشدّد رئيس تشيلي اليساري غابرييل بوريك، هو الآخر، على أنه لا يمكن غض الطرف عن مزاعم انتهاكات حقوق الإنسان في فنزويلا، لكنه أعرب عن سروره بعودتها إلى الهيئات المتعدّدة الأطراف، بعد أن كانت قد تخلت عن العمل من خلالها، مكرّرا رفضه للعقوبات المفروضة عليها من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وهو ما دعا إليه أيضا رئيس الأرجنتين ألبرتو فرنانديز (من يسار الوسط)، الذي طلب من فنزويلا العودة إلى العمل الجماعي مع دول القارّة ضمن المنظمات والمحافل الدولية، مقترحا لحلّ أزمتها اعتماد خريطة طريق مشتركة بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة لتوفير ضماناتٍ لعملية انتخابية يُفترض أن تجري العام المقبل.
"حوار الرؤساء" يهدف إلى تكريس تقليد الحوار الذي يعتمد المواجهة والشفافية، وممارسة النقد بين الرؤساء الذين درجوا في السابق على التهرّب من طرح المشكلات الحقيقية التي تسود دولهم
لم ينس زعماء آخرون إعلان امتعاضهم من الحفاوة التي قوبل بها الرئيس الفنزويلي من البرازيل، الدولة المنظمّة للقمّة، ووجهوا اللوم للرئيس البرازيلي اليساري لويس إيناسيو لولا على وصفه ما دعا إليه بعضهم من ضرورة استجواب حكومة كاراكاس بشأن مزاعم انتهاكاتها حقوق الإنسان بأنه "مجرّد بناء سردي".
تحمّل الزعيم الفنزويلي المتشدّد كل هذا النقد بصبرٍ وأناة، وهو الذي لم تُعرف عنه قدرته على الصبر على منتقديه، لم يردّ بشكل مباشر عليهم، واكتفى بالقول إنه يحترم مبدأ الحوار والتسامح، مكرّرا شعاره الذي أطلقه لدى حضوره "التنوّع في ظل الوحدة".
وخلصت الاجتماعات إلى الموافقة الجماعية على ما سمّيت الوصايا العشر التي اقترحها الرئيس البرازيلي لولا، وجاءت، كما قال، من حقيقة "أن المنطقة لم تعد قادرةً على الانتظار أكثر مما انتظرت للتغلب على الهاوية الاجتماعية التي لا تزال قائمة منذ عهود الاستعمار، وللتوجّه نحو التكامل الإقليمي والوحدة". ومن بين "الوصايا العشر" المقرّة "وضع المدّخرات الإقليمية في خدمة التنمية الاقتصادية والاجتماعية"، و"تقليل الاعتماد على الدولار في تجارة أميركا الجنوبية"، و"تحديث المشاريع التي تم تصميمها منذ أكثر من عقدين، ولم تكتمل"، و"العمل على إنشاء سوق للطاقة في القارّة".
يمكن أن يقال هنا إن دول أميركا الجنوبية التي تبلغ مساحتها ضعف مساحة أوروبا، وتضم نحو نصف مليار إنسان، الغارقة في مشكلاتها، وكانت إلى حد قريب تمثل الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، قد حدّدت في قمتها أخيرا مسار اكتمالها ووحدتها. الأهم أنها جمعت في دورتها هذه رؤساء متعدّدي الانتماءات، اشتراكيين متشددين، ويساريين معتدلين، ويمينيين محافظين، ليؤكّدوا من خلال ذلك هزيمة الأيديولوجيا، والتمسّك بمبدأ التنوع في ظل الوحدة، يحدوهم الأمل بقدرتهم على الثبات وسط عالم قلق، وقابل للتغيير والتحوّل في أي لحظة.