عن التوغّل في جنوب لبنان
صعّدت إسرائيل منذ أسبوعين استهداف حزب الله في جبهتها الشمالية، وحاولت أن تُظهِر للحزب هشاشةَ تنظيمه العسكري، فنفّذت عمليّتَين استخباريّتَين طاولتا العصب شديد الحساسية في الحزب، قطاع الاتصالات، عندما فجّرت في يومَين متتاليَين أجهزةَ اتصالاتٍ مُستخدَمةً ضمن الدائرة الضيّقة للحزب، حتّى إنّ أحد هذه الأجهزة يستعمله السفير الإيراني في بيروت بشكل شخصي. ولم تقف عند هذا، فوجّهت ضرباتٍ ذاتَ تركيز كبير إلى عناصرَ في القيادة العسكرية العُليا للحزب.
تحمل هذه العمليات رسائلَ بليغةً لحزب الله ورُعاته، أنّ إسرائيل اخترقت النواةَ الداخلية للحزب، وأصبحت ملفّاته مكشوفةً بشكل واضح أمامها، ورسالةً من نوع خاصّ للدولة اللبنانية، عندما طاولت استهدافات إسرائيل مؤسّسات الحزب والبيئة التي تحضنه مباشرة، بينما أبقت الدولة اللبنانية ومنشآتها على الحياد، وكأنّها ترغب في تسجيل موقفٍ يُحيّد بقية اللبنانيين عن المواجهة التي تدور رحاها في كامل الخطّ الجنوبي الفاصل مع فلسطين المحتلّة، ولكن الرسالة التي تبدو أكثر أهمّيةً هي أنّ الهجوم البري قد لا يبدو وشيكاً، الأمر الذي يُظهره تصاعد المواجهات ولجوء حزب الله إلى أسلحةٍ لم يستخدمها من قبل، من حيث طول مدى القذائف التي وُجّهت عقب تلقّي ضربات إسرائيل الإلكترونية.
تخوض إسرائيل حرباً برّية تقترب من ذكراها السنوية، وقد جاب الجيش الإسرائيلي غزّة بطولها وعرضها، وأبقى قواته قريبةً (وفي تماسٍ مباشرٍ) من محور صلاح الدين (فيلادلفي) المحاذي للحدود المصرية، ليراقب أيَّ تسرّب يمكن أن يحدث لصالح حركة حماس، ولم تتوقّف عن إذاعة البيانات المباشرة للجمهور الفلسطيني في غزّة لينتقل من الشمال إلى الجنوب، مع الإشارة إلى الطرق "الآمنة" التي يجب أن تُسلَك جيئةً وذهاباً. ولكن، مع ذلك كلّه لم تقترب من هدفها المُعلَن الأوّل، وهو تفكيك "حماس" وإرغامها على الاستسلام، ولا بدّ من أنّها أصبحت على يقين بأنّ الاجتياح البري شمالاً قد لا يكون أفضلَ وسيلةٍ لتأمين جبهاتها، وإعادة مستوطنيها، الذين تركوا بيوتهم خوفاً من القصف، وقد ترغب إسرائيل في التصعيد إلى أقصى درجة مع حزب الله، في محاولة لتأكيد نقاطها السابقة، التي تقول إنّ الحزبَ مُخترَق، ويُمكن أن يخسر بسهولة في أيّ مواجهة.
يمكن بعد قصف جوّي مكثّف على الجنوب اللبناني أن تدخل إسرائيل معركة برّية، وهي تستطيع بما تمتلكه من قوّة تحديد موعد الدخول، ولكن الأمر ليس سهلاً، ومثال غزّة حاضرٌ بقوّةٍ، فرغم تهرّب بنيامين نتنياهو من محاولات التوصّل إلى وقفٍ لإطلاق النار في غزّة، وعدم قبوله هدنةً، مُتَّخذاً مظهر القوي المصمّم على إدامة الحرب، لكنّه غير قادر على معرفة ما سيحدث في اليوم التالي لوقف المعارك، فالهدف الذي أُعلِن في البداية كبير، وتكلّفت إسرائيل، حتّى الآن، عاماً كاملاً من دون الوصول إليه، ويُعتبَر تفكيك حزب الله أكثرَ صعوبةً، لأسباب كثيرة، منها تداخل الحزب مع الوضع اللبناني كلّه، ومهما حاول نتنياهو الإيحاء بأنّه يُفرّق بين ما هو لبناني وما هو عائد لحزب الله، إلّا أنّ العقاب سيعمّ الجميع، بالإضافة إلى قوّة حزب الله الذاتية، ومعرفة أفراده بالمنطقة جيّداً، ما قد يعوق كثيراً أيَّ تدخّل برّي.
يمكن لإسرائيل أن تُعيد إحياء قرار مجلس الأمن 1701، الذي يُلزم حزب الله التراجع إلى وراء خطّ الليطاني، ولكن ذلك ليس بالأمر السهل، فوضعية حزب الله وإيران في المنطقة ما زالت على حالها، رغم التردّد الذي يُبديه النظام السوري. هذا لا يعني أنّ إسرائيل ستتوقّف، فلديها القدرة الكبيرة على إدامة حرب التراشق بعيد المدى، ومن الممكن أنّها ما زالت تحتفظ بمفاجآت خطرة كتلك التي فجّرت فيها أجهزة الاتصال، إذ يبدو أنّ السنوات الماضية كانت أعواماً نشطةً جدّاً لجهاز الأمن الإسرائيلي، الذي عكف على تفخيخ كلّ شيء مرتبط بحزب الله.