عن الشباب التونسي والتنظّم الذّاتي
يتبيّن للنّاظر في المشهد العمراني التونسي أنّ فئة الشباب كتلة ديمغرافية وازنة، فما لا يقلّ عن 25% من السكان هم من الفئة العمرية بين 15 و29 سنة، بحسب مؤشّراتٍ إحصائيةٍ متواترة. ولا تمارس هذه الشريحة، قبل الثورة وبعدها، الدور القيادي والحيوي الذي يناسب حجمها الديمغرافي في المجتمع التونسي، فهي لا تحظى بتمثيلية واسعة في الأحزاب السياسية الحاكمة أو المعارضة، ونادرا ما يتمّ ترشيح شبابٍ من الجنسين لتصدّر القائمات (القوائم) الانتخابية. وحضور الشباب في المواقع القيادية في المنظّمات النقابية العريقة (الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية مثالا) باهت، بل يكاد يكون منعدما. والواقع أنّ الشباب التونسي غير موجود بالقدر المطلوب في المؤسسات السيادية والهيئات المهنية والهياكل الجمعوية. وهو ما يؤجّل الاستفادة من طاقاته الكامنة وقدراته الحيوية في توجيه مسارات الانتقال الديمقراطي، وبناء الجمهورية الثانية. وتكمن خطورة تدنّي المشاركة الشبابية في صناعة القرار في أنها تزيد من حدّة الاحتقان الإجتماعي وتجعل الشباب يشعر بأنه مهمش ومغيب، ولا يستشار في تدبير (تسيير) شؤونه، وفي إدارة الشأن العام. وينذر ذلك بتعميق الفجوة بين الطبقة السياسية والنقابية والمدنية عموما والأجيال الصاعدة، ويدفع قطاعا من الشباب إلى انتهاج أساليب احتجاجيةٍ تصعيديةٍ للتعبير عن سخطه، ولإيصال صوته إلى المتنفّذين في هياكل الدولة. فيما يختار طيفٌ معتبرٌ من الشباب بعد الثورة الإقبال على التنظّم الذاتي بتشكيل تجمعاتٍ عفويةٍ ذاتيةٍ تمثل قوة ضغط على صانعي القرار في تونس.
التنظّم الشبابي الذاتي حالة إدراكية تلقائية، وحركة تفاعلية جماعية، وتعبير احتجاجي شبابي سلمي، واع بحتمية التغيير
المُراد بالتنظّم الذاتي توجّه شريحةٍ من الشباب إلى البحث عن قنواتٍ بديلةٍ عن الأجهزة الرّسمية وعن الأحزاب السياسية وعن المنظّمات النقابية التقليدية للتعبير عن وجودهم، وعن مواقفهم من سياسات النظام الحاكم، وذلك من خلال تأسيس هياكل مدنيةٍ جديدة، يقودها شباب متطوعون، يرومون تشكيل قوةٍ شبابية تأثيرية وازنة داخل المشهد المجتمعي، تكون قادرة على إيصال أصوات الشباب ومطالبهم إلى صانعي القرار في هرم السلطة. والتنظّم الشبابي الذاتي حالة إدراكية تلقائية، وحركة تفاعلية جماعية، وتعبير احتجاجي شبابي سلمي، واع بحتمية التغيير، وهي لا تقنع بالواقع. بل تروم التأسيس لغد شبابي واجتماعي أفضل. وتكتسب هذه التشكيلات الشبابية قوّتها من شرعية مطالبها، ومن عدم ارتهانها لأجنداتٍ داخلية أو خارجية مشبوهة، ومن أنها لا تميل إلى صناعة زعاماتٍ بارزة، ولا تتعلّق بخلفيات أيديولوجية مغلقة، ولا تميّز بين المنتمين إليها على أساس اللون أو الجنس أو العرق أو الدين، ولا على أساس الانتماء الجهوي أو الطبقي، ولا تنشغل كثيرا بالجوانب النظرية التجريدية الضبابية. بل تركّز أساسا على العمل الميداني، وعلى الجوانب الحقوقية والمطلبية الجامعة، وتعمل على تحشيد الجهد الجمْعي، لأجل تحسيس الرأي العام وصنّاع القرار بضرورة تمكين الشباب في مختلف المجالات الحيوية، وتعزيز مشاركتهم في مسارات الإصلاح، والحوكمة، ومشروع الدمقرطة، وضمان حقّهم في الاختلاف، والإبداع، والتأطير، والعيش الكريم. وفي هذا السياق، ظهرت جمعيات شبابية مدنية فاعلة داخل الاجتماع التونسي بعد الثورة، من قبيل منظمة "أنا يقظ"، وهي منظمة شبابية رقابية تونسية، تهدف إلى مكافحة الفساد المالي والإداري والسياسي، وتعزيز الشفافية في التظاهرات الحزبية والجمعوية، والعمليات الانتخابية والأنشطة الحكومية بمختلف مراحلها. وهي نقطة الاتصال الرسمية لمنظمة الشفافية الدولية في تونس، وتتبنّى مبدأي عدم الإقصاء على أساس الهوية، ورفض الوصاية على الشباب. وتعرّف نفسها بأنّها: "تؤمن بالطاقات الشبابية التي تزخر بها تونس". وترى "الشباب الذي قام بالثورة يملك مؤهلات تجعله جديرا بالثقة. وتعمل على إدراج الشباب في منظومة اتخاذ القرارات وترفض الوصاية عليه بأي شكل من الأشكال بتعلة نقص في الخبرة". وكشفت المنظمة المذكورة ملفّات فساد ثقيلة، وأحالت المشتبه فيهم على القضاء. وفي السياق نفسه، من المفيد الإشارة إلى جمعية "بوصلة" التي تهتم بمراقبة الاستحقاقات الانتخابية والمؤسسات الدستورية، وتخبر بمدى نزاهتها. كما تعنى "منظمة الشباب قادر" بإقناع الرأي العام والجهات المسؤولة في الدولة بإمكان التعويل على الشباب في قيادة البلاد، وإدارة الشأن العام. وفي مستوى آخر من التنظيم الشبابي، الذاتي، بادر شباب إلى تشكيل تنسيقيات وتجمّعات شبابية احتجاجية عفوية، عبّروا من خلالها عن المطالب التنموية لجهاتهم، ورفضوا الدخول تحت يافطات حزبوية أو جمعوية أو نقابية أو أيديولوجية معينة، ونظموا أشكالا احتجاجيةً مختلفة (اعتصامات - إضرابات - حملات دعائية عبر وسائل التواصل الاجتماعي) لفتوا من خلالها الرأي العام الوطني والدّولي لمطالب جهاتهم التنموية. وفي هذا الإطار، تندرج الأنشطة الاحتجاجية التي نظمها سكان الحوض المنجمي في مناسباتٍ عديدة، وتلك التي قادها شباب محافظة تطاوين من خلال تنظيم اعتصام الكامور الذي أشرفت عليه تنسيقية شبابية تفاوض الحكومة، واتحاد الشغل، والشركات المستثمرة في المنطقة، من أجل تحسين الوضع التنموي في الجهة، وتشغيل عدد معتبر من الشباب. كما ظهرت حركة "مانيش مسامح" (لن أسامح)، وهي حراكٌ شبابيٌّ احتجاجي مكثف، ضغط من أجل إلغاء قانون المصالحة الاقتصادية، ونجح في لفت الرأي العام محليا ودوليا لاستتباعات تبييض رموز الفساد المالي والإداري ومخاطر تأمين إفلاتهم من المساءلة والمحاسبة. كما ظهرت هيئاتٌ شبابيةٌ أخرى للمطالبة بتشغيل الشباب، خصوصا الدكاترة، أصحاب الشهادات العليا، ومن فاقت بطالتهم عشر سنوات.
أحرى بالهيئات الحاكمة ومكوّنات المجتمع المدني التفاعل إيجابيّا مع التشكيلات الشبابية الصاعدة
بناءً على ما تقدّم، يتبيّن أنّ معاناة شبابٍ كثيرين من التهميش الشامل، وشعورهم بالإقصاء في مجتمع كبّلته البيروقراطية، والمحسوبية، وهيمنت عليه الوجوه القديمة، والسياسات التقليدية المكرورة، دفع طيْفا من الأجيال الصاعدة إلى العزوف عن أجهزة الدولة الرسمية، وعن مكوّنات الإجتماع المدني والسياسي والنقابي التقليدية، لينتظموا في تشكيلات تعبيرية جديدة، ضاغطة على السلطة وتوّاقة إلى إحداث التغيير المنشود. ويمكن تفسير هذا النزوع المتزايد إلى التنظّم الذّاتي، بشيوع سياسات تحييد الشباب، وعدم تعامل الجهات المسؤولة بجدّية مع مشاغلهم. ويندرج ذلك ضمن ما يصطلح عليها سياسات الإقصاء الاجتماعي التي تتعارض مع مبدأ "الديمقراطية التشاركية "، وتنبني على تعطيل إدماج فئةٍ معينةٍ من المجتمع ضمن الحياة العامة، أو ضمن دورة الإنتاج والتشغيل، وينعكس ذلك سلبا على شريحة الشباب. ومن أهم تداعيات هذا النهج إبقاء الأجيال الصاعدة على هامش الحياة الاجتماعية والمدنية والسياسية والاقتصادية، وتزايد الشعور بانتماء مبتور إلى الوطن في صفوف الشباب، وجنوح بعضهم إلى العنف في التعبير عن وجوده وفي رفضه سياسات الدولة.
المناخ الديمقراطي المشهود في تونس بعد الثورة حرّر المجتمع، والشباب خصوصا، من إسار الخوف من الأجهزة السلطوية
ختاما، يمكن القول إنّ المناخ الديمقراطي المشهود في تونس بعد الثورة قد حرّر المجتمع عموما، والشباب خصوصا، من إسار الخوف من الأجهزة السلطوية، وعزّز الحرّيات العامّة والخاصّة وكرّس ثقافة التعدّدية، وسمح بازدهار ظاهرة التنظم الذاتي في صفوف الشباب، وهي ظاهرةٌ تعبيريةٌ مدنية، دينامية، دالّة، يعبّر من خلالها الجيل الشابّ عن كينونته، وعن قدرته على الفعل في الشأن العام، والمساهمة في صناعة القرار، وهي، في الوقت نفسه، ظاهرة احتجاجية ضدّ الوجوه القديمة، والسياسات المستهلكة والمقاربات التقليدية في التعاطي مع الشأن الشبابي. وأحرى بالهيئات الحاكمة ومكوّنات المجتمع المدني التفاعل إيجابيّا مع هذه التشكيلات الشبابية الصاعدة، ومع مطالبها الملحّة في الإصلاح، والتطوير، والتمكين للشباب. وإن لم تفعل، فقد تتحوّل تلك الجماعات الشابّة إلى حركة تمرّد قد تعصف بالمنظومة الحاكمة والجهاز المدني التقليدي السّائد من أجل التأسيس لعصر حوْكمي، شبابي جديد.