عن الضحك والنسيان والسياسة
في فبراير/ شباط من عام 1948، وقف الزعيم الشيوعي، كليمان غوتوالد، على شرفة قصر في مدينة براغ، ليحيي حشود الشعب، حين نزع رفيقه وزير الخارجية، كليمانتس، قبعته من الفرو ليضعها على رأس الزعيم. أنتجت شعبة الدعاية بالحزب الشيوعي التشيكي مئات آلاف النسخ من تلك الصورة التي ترمز إلى بدء التاريخ الشيوعي للبلاد، صارت مقرّرة في الكتب المدرسية والمجلات والمتاحف وكل مكان. بعد أربع سنوات فقط، اتهم كليمانتس بالخيانة ثم شنق، وتولت شعبة الدعاية محو كل أثر له، بما في ذلك حذفه من الصورة الشهيرة. لم يبق من كليمانتس سوى قبعته.
بهذا المشهد، يبدأ الكاتب التشيكي، ميلان كونديرا، روايته "كتاب الضحك والنسيان"، التي تقدّم سبع قصص متصلة منفصلة، يجمعها وقوعها في الفترة التالية لأحداث قمع ربيع براغ عام 1968.
كان كونديرا ورفاقه ناشطين في حراكٍ يدعو إلى إصلاحات من داخل الحزب الشيوعي الحاكم، ونظم جناحهم في اتحاد الكتاب مؤتمراً عام 1967 طالب بإطلاق حريات التعبير والتنقل وغيرها، وتزامن ذلك مع صدور روايته الساخرة "الدعابة" التي تنتقد الحكم الشمولي.
حدثت الضربة الأخيرة بفعل المصادفة، إذ تفجّرت فضيحة عندما ضُبط قادة عسكريون كبار وهم يتلقون رشىً لبيع بذور محاصيل من مخازن الجيش، فأطاحت أغلبية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الرئيس نوفوتني، وتولى مكانه ألكسندر دوبتشيك الذي أعلن سياسته لتطبيق "الاشتراكية ذات الوجه الإنساني". رُفعت الرقابة عن الإعلام فورا، وتضمّنت الخطة السماح بقدر من حرية اقتصاد السوق إلى جانب استمرار الاقتصاد الاشتراكي المخطّط، وطرح التحول إلى فيدرالية لحل الخلاف التاريخي بين التشيك والسلوفاك، فضلا عن إعلان مرحلة انتقالية عشر سنوات، تنتهي بالسماح بتعدّد الأحزاب والانتخابات.
يصف كونديرا تلك الأيام قائلاً: "لقد عمّت بهجة عجيبة لا تصدّق، إنه الكرنفال!". لكن البهجة لم تدم أكثر من بضعة أشهر، لأن "روسيا لم تكن لتسمح بشرود النغمات". اجتاحت دبابات حلف وارسو البلاد، وسرعان ما هرب منها نحو مائة وعشرين ألف تشيكي، بينما عُزل نحو نصف مليون آخرين من وظائفهم، ومنهم أدباء وأكاديميون اضطرّوا للعمل سائقين وعمّالا في مناطق نائية، ليختفوا تماما كأن لم يكونوا.
لا يشمل القمع أجساد البشر فقط، بل ذاكرتهم أيضا. عام 1969، نصّب الاتحاد السوفييتي هوساك رئيسا جديدا، لقّبه كونديرا "رئيس النسيان"، حيث أطلق حملة تضمّنت طرد 145 مؤرخاً، وهدمت كل التماثيل المرتبطة بما لا ترغبه السلطة. قال المؤرخ المفصول ميلان هوبل: "لتصفية الشعوب، يُشرع بتخريب ذاكرتها وتدمير كتبها وثقافتها وتاريخها... بعد هذا يبدأ الشعب شيئا فشيئاً في نسيان من هو وكيف كان، فينساه العالم من حوله بشكل أسرع".
ترتبط شخصيات الرواية بالنسيان، منهم من يطلبه حثيثا مثل ميريك الذي يريد نسيان علاقته الحميمة مع فتاةٍ يكره شكل أنفها، ومنهم من يقاومه مثل تامينا التي هربت من البلد، وعملت نادلة، وتحاول استعادة خطاباتها الغرامية من منزل أسرتها لتستعيد ذاتها القديمة معها.
وبالتوازي، يظهر الضحك، فهو والأنين كلاهما مفصولان عن الماضي والحاضر. والضحك "تصير الأشياء معه أكثر خفةً مما ظهرت عليه، ومن ثم نتحرّر منها، وتكفّ عن قهرنا تحت وطأة جدّيتها القاسية". في سياق الرواية، يكسر كونديرا حاجز الإيهام، ويروي تجربته الشخصية، فقد جرى فصله من العمل، واضطر لكتابة باب "حظّك اليوم" تحت اسم مستعار، لكن سرعان ما اكتشفته الشرطة السرّية، وفُصلت الصحافية التي عاونته.
نشر كونديرا هذه الرواية عام 1978، من منفاه الاختياري في فرنسا. لم يكن ليتخيّل وقتها أن الاتحاد السوفييتي سينهار عام 1991، وحينها سيعود الربيع وقد تحوّل إلى عاصفة عارمة. لم يعد مطروحا أي إصلاحات جزئية، بل جرى تقسيم البلاد إلى التشيك وسلوفاكيا، وكلاهما اعتمد الديمقراطية الليبرالية، وانضم إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، ويحيي ذكرى "ربيع براغ" سنويا. لا تفقد الشعوب ذاكرتها بشكل كامل مهما طال الزمان وساد حكم الصمت.