عن العصافير التي تطير في مصر
تحدّث الفنان العجوز العائد إلى الظهور بعد اختفاء سنواتٍ، بكل أسى، أنّه ليس لدى الفنانين في مصر شاطئ خاص مغلق عليهم، يجعلهم في مأمن من عيون المواطنين وتلصّصهم على حياتهم الخاصة.
يدافع الممثل أحمد ماهر عن مطلبه بعبارات من نوعية "لحد دلوقتي مفيش شاطئ خاص للفنانين علشان محدّش يجرحهم، ويبقى المجتمع ده خاص بينا، أولادي مع أولاد زملائي وزميلاتي .. أنا ما بروحش مكان إلا وكل الناس تسألني إيه آخر أخبارك، وإيه العمل الجديد اللي هتقدمه، وفترة المصيف بتكون فترة استجمام، بنعزل فيها عن العالم تماما، والشاطئ يضمن الخصوصية للفنانين".
قريبًا من ذلك، وفيما تندلع الأخبار عن تدافع شديد بين أعضاء الطبقة العليا لحجز وحدات شاطئية فاخرة في ساحل مصر الشمالي، يصل ثمنها إلى 120 مليون جنيه مصري، فيما يقول المتابعون إنّ المعروض منها نفد فور طرحه، تأتي أنباء أخرى عن تعليق قرار رفع أسعار تذكرة مترو الأنفاق إلى عشرين جنيهًا، مقارنة بجنيه واحد للتذكرة في العام 2016.
ما يطالب به الفنان المخضرم، وما جرى الإعلان عنه، من تسابقٍ محموم لحجز الوحدات ذات المئة وعشرين مليون جنيه في بلد يكتوي بالتضخّم والعجز المالي، نتيجة للإذعان الكامل لما يطلبه صندوق النقد الدولي، يعبّر بوضوح عن تلك الحالة من الانشطار الطبقي المروّع في مصر، والذي يعبّر بدوره عن هيمنة حالة من الشعور بالاغتراب المجتمعي بين مكوّنات البلد الواحد، فالفنانون يريدون مجتمعًا مسوّرًا مغلقًا عليهم فقط، كي لا يجرحهم الناس العاديون بعيونهم وألسنتهم وأسئلتهم المرهقة عن الأخبار والأحوال، ونادي الطبقة العليا في المجتمع يتمترس خلف عقيدة "الكومبوند" التي تجعله يبحث عن مزيد من العزلة عن الناس العاديين، أو ذلك "الآخر" الذي يحيا خارج مجتمعه المغلق.
على أن الميل إلى الانعزال في دوائر ضيقة لا يقتصر على الرغبة في الابتعاد الجغرافي، فقط، عن الآخرين، بل الأخطر هي كمبوندات العزلة الفكرية والثقافية، والتي يحدث فيها شكل من الاستعلاء على ساكني الأفكار الأخرى، أو تسفيه ما يهتم به جمهور الناس وازدرائه، سواء بالإدانة الكاملة له، أو بالحد الأدنى اعتباره من الأدوات التي تستعملها السلطة الحاكمة لإلهاء الناس، أو بالتعبير الشعبي البليغ: العصافير التي تطيرها الحكومات في الفضاء الاجتماعي لإلهاء الجموع عن القضايا الكبرى.
هنا تصبح كرة القدم والفنون هدفًا سهلًا لأولئك العميقين للغاية، الحقيقيين منهم والمزيفين، الذين يعنفون المهتمين بكرة القدم أو الغناء، مثلًا، فيما تتخذ المسألة أحيانًا طورًا أعنف يصل إلى حد الاتهام بالمشاركة، بوعي أو من دون وعي، في مؤامرة تخدير المجتمع وصرف الناس عن القضايا الكبرى، فيما قد لا تعدم أن يصل الأمر ببعضهم إلى تجريم الفن وتحريمه، وبالحد الأدنى اعتباره من التوافه والملهيات.
على أنه، في الناحية الأخرى، قد تجد بعضهم مستسلمًا تمامًا للانعزال في قوقعة الرياضة وكرة القدم، بحيث تصبح معركته الأولى، فيتخندق خلف هذا الفريق ضد المنافس، ليصل الشطط أحيانًا إلى اعتماد النادي وطنًا بديلًا لذلك الوطن الفعلي الذي تشعر فيه طبقاته بالتوجس من بعضها بعضا، والميل إلى الابتعاد في شواطئ أو كمبوندات خاصة، مغلقة على شركاء اللون الواحد، الانتماء الواحد للفكرة أو للفريق.
الذي يحدث في هذه الحالة أن معنى القضية الكبرى الجامعة لم يعد متفقًا عليه بين مكونات المجتمع، فلكل ما يراه مهمًا وجادًا وجذريًا إلى حدّ التقديس، وما عداه هو العصافير المطيّرة بفعل فاعل في نظره، فإن تكلمت عرضًا في الأهلي والزمالك وكرة القدم العالمية، مثلًا، فأنت تساهم في "عصفرة المجتمع"، وتشغله عن حلقات مسلسل ملء سد النهضة والكوارث الاقتصادية والسياسية، وإن تحدثت عن مطربة فلسطينية محترمة منعتها السلطات من الغناء لجمهورها في مصر، فأنت تأخذ المجتمع بعيدًا عن الصواب والعقيدة الصحيحة .. وهكذا، وبهذا المنطق الطبقي الفئوي المغلق، لا يتسامح أحد مع فكرة الإنسان الطبيعي العادي، الذي يحب الفنون وكرة القدم، ومع ذلك يعرف الله ويحب الوطن ويقدّس الدين والمعتقد وينشغل بقضايا المجتمع ومشاكلة اليومية، من غياب للحريات وقتل لفكرة العدل الاجتماعي والتطبيع، ويحلم بتحرير فلسطين ويحتفظ بصورة إسرائيل كعدو، وغير ذلك من أمور لا تغيب عن أحد.
تبدو الصورة مفزعة عندما تجد الذين يعانون من استبداد السلطة عليهم، من مختلف الطبقات الاجتماعية والفكرية، يستبدون ويتسلطون فكريًا، على بعضهم بعضا، فيريد كل فصيل أن يفرض على الآخر أجندة الاهتمامات والانشغالات اليومية، وإلا فإنه أداة من أدوات السلطة في الإلهاء.
بالمناسبة، أشفق على الذين يظنون أن هذه السلطة تجهد نفسها في اختراع "عصافير" لإلهاء الجماهير عن ملء سد النهضة، فظني أن الكلام المعاد بلا أي معنى عن الملء المتكرّر للسد الأثيوبي قد تحول إلى "عصفورة موسمية" تطيرها، لأغراض خاصة بها، سلطة منحت موافقتها المسبقة على كل ما تقوم به أديس أبابا، فإذا كان السد مؤامرة على مصر فهي شريكة في هذه المؤامرة.
حديث العصافير لم يعد له معنى، فالجمهور يعرف أن السلطة تكذب عليه، والسلطة تعرف أن الجمهور يعرف أنها كاذبة، لكنها مخيفة وباطشة.