عن المشهد الانتخابي للدورة الثانية في تركيا
رُسمت المعالم العامة للمشهد الانتخابي الرئاسي في تركيا مع الدورة الأولى للانتخابات التي، وإن لم تكن حاسمة، إلا أنها قدّمت فكرة أولية عن التوازنات السياسية، قبل أن تتضح معالم المشهد أكثر على بعد أيام بل ساعات من الاستحقاق الرئاسي الحاسم اليوم الأحد (28/5/2023).
للتذكير، فقد أسفرت نتائج الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية عن تقدّم الرئيس رجب طيب أردوغان، وحصوله على 49.5% من أصوات الناخبين مقابل 45% لمنافسه مرشّح المعارضة كمال كلجدار أوغلو، و5% لمرشّح اليمين القومي المتطرّف سنان أوغان، وقرابة نصف بالمائة لمرشّح اليسار القومي محرم أينجي، الذي كان قد انسحب من التنافس بعد تعرّضه لحملة ابتزاز اتهم تحالف المعارضة بالمسؤولية عنها بالتنسيق مع جماعة فتح الله غولن، بينما ذهبت معظم أصواته لصالح سنان أوغان.
برلمانياً، فاز تحالف الجمهور المؤيد للرئيس بالنسبة نفسها تقريباً، وحاز الأغلبية البرلمانية 323 مقعدا من أصل 600 مقابل 35% لتحالف الأمة المعارض (212 مقعدا و10 للتحالف اليساري الكردي المتحالف معها 65 مقعدا) وهي تقريباً النسبة نفسها، أي 45% التي نالها مرشّح المعارضة رئاسياً، بينما كان لافتاً حصول تحالف الأجداد اليميني المتطرّف على 2% فقط برلمانياً، بينما حاز مرشّحه الرئاسي سنان أوغان على 5% ما يعزّز فرضية انتقال أصوات جزء معتبر من أصوات محرم أينجيه إليه.
بناء على نتائج الدورة الأولى، انطلق السباق الرئاسي للدورة الثانية بين أول متنافسين بأفضلية واضحة للرئيس أردوغان، خصوصا مع ملامسته حاجز الـ 50% واحتياجه إلى نصف بالمائة فقط للفوز، حتى من الدورة الأولى، بينما عزّزت تطوّرات الأيام الماضية ومستجدّاتها الفرضية والاحتمال القوي لحسمه السباق، من دون معاناة كبيرة في الدورة الثانية.
تمثلت تلك التطورات، أولاً، بارتفاع نسبة التصويت وسط المغتربين في الخارج، خصوصا في مراكز الثقل الاغترابية (ألمانيا وفرنسا) بعد شعورهم بأهمية أصواتهم ومركزيتها لترجيح الكفّة تحديداً مع احتياج الرئيس إلى 174 ألف صوت إضافية للفوز بالمرحلة الأولى، عوضاً عن استفزاز شعورهم القومي العالي واليقظ أصلاً للردّ على الحملة الإعلامية الغربية غير المهنية وغير الديمقراطية والمتغطرسة والمتعالية المعادية للرئيس أردوغان، والساعية إلى فرض الوصاية الأجنبية تجاه الشعب التركي وحقّه الأصيل في اختيار قياداته وتقرير مصيره بنفسه.
ارتفاع نسبة التصويت وسط المغتربين في الخارج، خصوصا في مراكز الثقل الاغترابية (ألمانيا وفرنسا)، بعد شعورهم بأهمية أصواتهم ومركزيتها لترجيح الكفّة
من التطورات اللافتة كذلك كان دعم المرشّح القومي الخاسر سنان أوغان للرئيس أردوغان، لكن من دون أي مساومات أو تعهد وإغراءات من هذا الأخير، بل تجديد الالتزام بالبرنامج المعتمد والعلني لمحاربة التنظيمات الإرهابية كلها من دون تمييز أو تفضيل والعودة الطوعية والآمنة والمضمونة للاجئين السوريين إلى بلادهم، وتوفير سبل الحياة الكريمة لهم هناك.
لا يقلّ أهمية عما سبق إطلاق الرئيس أردوغان حملته الانتخابية للدورة الثانية بشكل منسجم ومستقر داخل الحزب والتحالف الحاكم، والذهاب إلى المناطق المنكوبة بالزلزال، بمشاركة حليفيه، دولت بهشلي وفاتح أربكان، بعد تعرّض أهالي تلك المناطق لإهانات ومضايقات من أنصار المعارضة، ثم لافتتاح المستشفى الشهير "دفنة" في ولاية هاتاي بعد شهرين من وضع حجر الأساس له، ما أفرغ حملات المعارضة المنفصلة عن الواقع من محتواها، والتي باتت عرضة للسخرية إثر انتقاداتها المكثفة والتشكيك في المشروع وسياسات الحكومة بشكل عام. في المقابل، تراكمت أخطاء المعارضة والجدالات والاستقالات في صفوفها مع ارتخاء العصب المشدود والشعور بالعجز عن هزيمة الرئيس أردوغان، وتحقيق الهدف التوافقي المركزي بين المكونات، والتمثيل بتغيير النظام الرئاسي والعودة إلى تطبيق النظام البرلماني القوي والمعزّز.
اتصالا بما سبق، كان حصول الأحزاب الصغيرة على ما تريده برلمانياً وصعوبة حشد أعضائها للتصويت من جديد في الدورة الثانية لكمال كلجدار أوغلو المفتقد الكاريزما، علماً أن جزءا مهما منهم صوّت له أصلاً بملل وعلى مضض في الدورة الأولى. إلى ذلك، أغضبت الحملة المتطرّفة والعنصرية ضد اللاجئين جمهور تلك الأحزاب، علماً أنها ذات خلفية إسلامية، وترفض حملة الكراهية المنفلتة ضد اللاجئين، وكانت أعطت مرشّح المعارضة قرابة 3% رئاسياً، ولكنها في المقابل نالت 35 مقعدا في البرلمان.
من التطورات السلبية للمعارضة الخطاب القومي المتشدّد للمرشّح كمال كلجدار أوغلو، والذهاب نحو معاداة اللاجئين لاستقطاب أصوات العنصري أوميت أوزداغ بعد انهيار تحالف الأجداد
لا يقل أهمية عما سبق إحباط القلب النابض للطاولة السداسية والتحالف المعارض، أي زعيمة حزب الجيد القومي ميرال إكشينار، من نتائج الدورة الأولى وغيابها عن السمع أسبوعا تقريباً. وقيل إنها كانت غاضبة، واستخدمت عبارات ومصطلحات من قبيل "لقد قلت لكم ..."، في إشارة إلى موقفها المعروف والمعلن سابقاً، أن كلجدار أوغلو غير قادر على هزيمة أردوغان وجلب النصر للمعارضة.
نجم إحباط المعارضة كذلك عن خسارة البرلمان وفقدان الفرصة لتحقيق الهدف المركزي الخاص بإجراء تعديلات دستورية لتغيير النظام الرئاسي، والعودة إلى النظام البرلماني المعزّز الذي يحتاج إلى 360 صوت في البرلمان، للذهاب إلى استفتاء شعبي أو 400 صوت لتعديل الدستور داخله، وهي أمورٌ لم تعد في المتناول، بمعنى أن لا هدف أو جدوى من الفوز بانتخابات رئاسية والبقاء ضمن النظام الحالي مع خسارة البرلمان، اللهم إلا حقّ الرئيس في الدعوة إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكّرة، ما يثير المخاوف الشعبية من العودة إلى حقبة الفوضى وعدم الاستقرار السياسي في البلاد.
من التطورات السلبية للمعارضة أيضاً الخطاب القومي المتشدّد للمرشّح كمال كلجدار أوغلو، والذهاب نحو معاداة اللاجئين لاستقطاب أصوات العنصري أوميت أوزداغ بعد انهيار تحالف الأجداد. إضافة إلى التعالي على المتضرّرين في المناطق المنكوبة بفاجعة الزلزال، بسبب تصويتهم الجارف للرئيس أردوغان، والتحالف الحاكم في عشر ولايات من أصل 11، بينما احتفظ الرئيس وحزب العدالة والتنمية بشعبيته وجماهيريته في ولاية ديار بكر التي تصوّت عادة لحزب الشعوب المعارض، وصوّتت رئاسياً لصالح مرشّح المعارضة كلجدار أوغلو.
تراكمت أخطاء المعارضة والجدالات والاستقالات في صفوفها مع ارتخاء العصب المشدود والشعور بالعجز عن هزيمة أردوغان
في السياق، بدا التحالف مع أوميت أوزداغ كعناق الدبّ مع تبنّي كلجدار خطاباً بدا يمينياً قومياً صرفاً، ما أغضب التحالف الكردي، أما حديثه عن الترحيل الفوري للاجئين السوريين بالإكراه، لا بالطبل والزمر خلال عامين كما اعتاد القول ومن دون التنسيق مع الاتحاد الأوروبي، وبعد إقامة البنى التحتية وتأسيسها وتوفير سبل الحياة الكريمة اللائقة لهم عند عودتهم ووعده لأوزداغ بحقيقة الداخلية المركزية والحساسة، فقد أثارا غضب فئات واسعة حتى داخل الطاولة السداسية والتحالف المعارض بشكل عام، مع الانتباه إلى أنه (أوزداغ) كان عضواً في حزب الجيد وجرى طرده لتجاوزات مسلكية.
وفي العموم، نجح الرئيس أردوغان في سحب ورقة اللاجئين من أيدي المعارضة عبر الإعلان عن خطة ومشروع متكامل لإعادتهم بشكل طوعي وآمن وكريم، وافتتاح وزير الداخلية سليمان صويلو (الأربعاء 24 مايو) المرحلة الأولى من المشروع الطموح لبناء 240 ألف منزل بتسع مناطق بالأراضي المحرّرة والآمنة في سورية بدعم من منظمّات غير حكومية محلية ودولية ومساعدة مهمة من دول عربية حليفة وصديقة، مثل قطر والكويت.
عبّرت المعطيات السابقة مجتمعة عن نفسها في استطلاعات الرأي في الأيام الماضية التي رجّحت جميعها "المهني المستقل المؤيد وحتى المعارض" فوز الرئيس أردوغان بأغلبية مريحة تلامس حدود الـ52% مقابل حصول مرشّح المعارضة على 47% تقريباً من أصوات الناخبين. وهنا، لا بد من التذكير الضروري بنتائج الانتخابات الرئاسية في العام 2018، حيث حاز أردوغان من الدورة الأولى على 52.5% تقريباً، بينما حازت المعارضة مجتمعة على 47%، توزّعت بين مرشّح حزب الشعب الجمهوري آنذاك محرم أنجيه الذي نال 31% ومرشحة حزب الجيد ميرال أكشنار (7%)، ومرشح الحزب الشعوب صلاح الدين ديميرطاش (8%)، ومرشّح السعادة تمل كاراملا أوغلو 1%، وهم حازوا في الانتخابات البرلمانية أخيرا على 45% بدون سنان أوغان وأصواته التي ستتوزّع وتنقسم بين المعسكرين على الأغلب. وهذا يعني أن أردوغان سينال 2,5% إلى 3% منها، وينال كلجدار أوغلو 2% تقريباً، ما يعني أن احتمال الفوز كبير جداً وحتى مضمون للرئيس أردوغان. وإذا كان لا بد من تحديد نسبة وأخذها بالاعتبار سينال الرئيس أردوغان 52% إلى 53%، ومرشّح المعارضة 46% إلى 47%، وهو تقريباً الفارق نفسه بينهما بالدورة الأولى.