عن تأثير رافضي القوانين في الانتخابات الليبية
بينما يتبنّى بعض المكونات السياسية رفض قوانين الانتخابات، يحدُث تقدّم في العملية الانتخابية، سواء بتثبيت القوانين أو تزايد عدد المرشحين، وهو ما يثير النقاش بشأن قدرة معارضي العملية الانتخابية على إجراء مراجعة قانونية لبعض البنود المتعلقة بشروط الترشيح الإجرائية والموضوعية، ولعل استعراض مؤشّرات تساند مطالبهم وتماسكهم الذاتي في مقابل تحرّكات الأطراف الأخرى وتأثيرها داخلياً وخارجياً يساعد في الكشف عن اتجاهات تأثيرهم في الوضع الراهن، فقد تلاقى مجلس الدولة وبعض البلديات وقوات بركان الغضب، وأخيرا رئيس الوزراء، عبد الحميد الدبيبة، على ضرورة مراجعة قوانين الانتخابات. وفي 27 الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، جاء بيان صادر عن اجتماع رئاسة مجلس الدولة مع عمداء بلديات على عيوب القوانين الانتخابية وصدورها بطرق غير لائحية لا تحترم الاتفاق السياسي، ولا تضمن تزامن الانتخابات التشريعية والرئاسية. ولتعزيز موقفه، اعتبر بيان لمجلس الدولة وقع عليه 90 عضواً، 10 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، مكونات النظام الانتخابي غير مناسبة، وتعمل على تمكين السلطوية وتساعد على الاستقطاب، وخلص إلى رفض قرارات المفوضية الوطنية لمخالفتها "التشريعات النافذة". وفي سياق هذه البيانات، صدرت تهديدات بعرقلة الانتخابات والوصول بمستوى التصويت إلى الصفر، من دون توضيح ما إذا كان يعني إغلاق مراكز التصويت أو امتناع الناخبين.
وكما يؤكّد بيان أمراء عملية بركان الغضب (حكومة الوفاق)، 9 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، على أهمية انعقاد الانتخابات في موعدها، فإنه يرفض قانوني الانتخابات لتجاهل رئيس المجلس، عقيلة صالح، الاتفاق السياسي وغياب الضمانات الدستورية وفق خريطة الطريق، ما يمثل بيئة مناسبة لحكم سلطوي، وقد شكك البيان في حياد المفوضية الوطنية للانتخابات. وتبدو هذه النقطة مهمة من وجهة أن قانوني الانتخابات تجاهلا التفاهمات الدستورية الواردة في الاتفاق السياسي وخريطة طريق جنيف. وبهذا المعنى، فإن قبول المفوضية لهما يعني وجود خلل قانوني في العملية السياسية يحول دون الرضا بالنتائج، وكان بيان بلدية مصراتة، 15 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي الأكثر انتقاداً عندما اعتبر أن القوانين تُمهد الطريق للمجرمين وتسهل وصول الفاسدين.
ركز رئيس الوزراء في مؤتمر باريس على إتاحة الفرصة لكل الراغبين في الترشيح، واقترح تعديل قوانين الانتخابات
وفي مؤتمر باريس، 12 نوفمبر، أكد رئيس الوزراء أن مؤتمر برلين شكل أرضية للحل السلمي القائم على تمكين الليبيين من السيادة الوطنية، وإنهاء كل ما يؤدّي إلى بقاء المراحل الانتقالية، الانقسام السياسي أو الصراع المسلح. وقد ركز على إتاحة الفرصة لكل الراغبين في الترشيح، واقترح تعديل قوانين الانتخابات، لتضمن تكافؤ الفرص والعدالة، توطئةً لقبول نتائجها، كما أشار إلى وضع معايير واضحة للعقوبات على معرقلي الانتخابات ورافضيها، بالإضافة إلى تزامن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في جدول واضح لا يقبل الالتباس.
تكشف السياقات السابقة عن ملاحظتين، تتمثل الأولى في تلاقي بياني "بركان الغضب" و"مجلس الدولة" في البنية اللغوية وترتيب المطالب، ما يُعبر عن ذهنية متماثلة، على الرغم من اختلاف الوظيفة السياسية، قد يعني ذلك تماثل القلق من مجريات الأحداث، لكنه لا يعكس إمكانية العمل المؤسّسي، فالقاسم المشترك يقوم على تمثيل ثورة فبراير ومناهضة حلفاء النظام الجماهيري، من دون روابط قانونية وهيكلية واضحة أو مستقرّة، وهي فجوةٌ تصل إلى بنية المجلس، حيث إن عدم صدور موقف المجلس من خلال اجتماع يثير الجدل حول تماسكه الذاتي.
أما الملاحظة الثانية، حيث يبدو موقف رئيس الوزراء أكثر ارتباطاً بفتح الطريق لترشّحه إلى الرئاسة، وليس اعتراضاً على بقاء سيف القذافي وخليفة حفتر ضمن المرشّحين، وهي نقطة اختلاف جوهرية مع رافضي الانتخابات الآخرين، مجلس الدولة وبعض المكونات العسكرية والبلديات، وهو ما يتضح في مطالبته بوضع نسق ومعايير لمعاقبة جميع المعرقلين والرافضين لنتائج الانتخابات.
الحديث عن الاستفتاء على مشروع الدستور أو القاعدة الدستورية ارتبط بالصراع السياسي على مدى الفترة الماضية
وبشكل عام، لا تستند مواقف رافضي إجراء الانتخابات لتقييم سياسي لأدائها في السنوات الماضية، فالحديث عن الاستفتاء على مشروع الدستور أو القاعدة الدستورية ارتبط بالصراع السياسي على مدى الفترة الماضية، ولم تتمكّن هذه المكونات من فرض رؤيتها في جدولة الانتخابات، سواء عن طريق لجنة الحوار السياسي أو من خلال مجلسي الدولة والنواب، ومن ثم، فإن إعادة طرحها أحد مظاهر نقص النظام الانتخابي، تُعبر عن ضعف أو تفكّك القدرة السياسية لهذه المجموعات وهيمنة الطابع الموسمي والظرفي لنشاطها وأعمالها.
وفي هذا السياق، تضطلع الأمم المتحدة بباع كبير في استمرار الخلاف بين المكوّنات المتباينة من الأصل، هناك مؤشّرات سلبية عديدة على مسيرة البعثة الأممية، جديدها احتواء الحراك الداخلي في مجلس النواب، بعد إخفاق الحرب على طرابلس في إبريل/ نيسان 2020، فقد نشطت القائمة بعمل المبعوث الخاص، ستيفاني ويليامز، في تسريع خطوات الحوار السياسي بتشكيل لجنة الحوار (75 عضواً)، لكن دورها، على الرغم من أهمية النتائج التي وصلت إليها، انحسر وتُركت في العراء خالية من دون أي تأثير في المشهد السياسي. يمكن تفسير هذا السلوك في الاتساق مع ميول البعثة المستمرة في تعطيل التحول السياسي واتجاهاتها، فالمسألة لديها لم تكن تطوير الحوار بقدر ما كانت إضعاف فرصة إعادة تشكيل مجلس النواب في طرابلس.
ويظهر جانب آخر من المشكلة متمثلاً في انحسار النفوذ السياسي لمجلس الدولة، واستمرار الاتفاق السياسي يجِب تشكيله خارج النطاق الدستوري للمرحلة الانتقالية، كما لم يستطع تحقيق مطالبه عبر المشاركة في أعمال اللجنة الدستورية (10+ 10) المُشكلة من المجلسين، حتى صارت نوعاً من العبث والافتراق، حيث بقيت بعيدةً عن الدخول في المشاورات بشأن قوانين الانتخابات أمام التحرّكات السريعة لرئيس مجلس النواب، وصدور قانوني الانتخابات. في هذه الظروف، استمرت المفوضية الوطنية وبدعم من البعثة الأممية في جدولة مرحلة الترشيح، ما يثير الجدل حول إمكانية استدراك تزامن الانتخابات والتركيز على ضمانات النزاهة.
قطع شوط في الحوار رتب أوضاعاً يصعب التراجع عنها والعودة إلى الخطاب الاستبعادي بعد مشاركة أنصار ثورة فبراير جنباً إلى جنب مع مخالفيهم
ومع مسيرة الحوار السياسي في 2015، بدت فكرة الاستبعاد ما بين ثورة فبراير والنظام الجماهيري غير منطقية، فقد رتبت تلك المرحلة لمشوار صدر فيه الاتفاق السياسي، ثم خريطة المرحلة التمهيدية، حيث شملت المشاركة كل التوجهات الليبية، بهدف استكمال الشكل التأسيسي لسلطة ما بعد الحكومة المؤقتة. وبغض النظر عن النقص القانوني أو الدستوري، فإن قطع شوط في الحوار رتب أوضاعاً يصعب التراجع عنها والعودة إلى الخطاب الاستبعادي بعد مشاركة أنصار ثورة فبراير جنباً إلى جنب مع مخالفيهم في محطّات مختلفة مرت بالمغرب وجنيف والقاهرة، ومن ثم، يُمثل إجراء انتخابات مفتوحة مدخلاً مناسباً لإعادة بناء السلطة، استناداً للإرادة الشعبية، وليس عبر تقسيمات بعيدة عنها.
ومن الناحية القانونية، بجانب السماح بترشيح غير الصادر بحقهم حكم نهائي، أناطت اللائحة التنفيذية، قرار مجلس القضاء الأعلى الخاص بالطعون رقم 142 / 2021، الطعن في المرشحين أمام الدوائر الابتدائية في الموطن المُختار للمرشح (المواد 5 ذ 7)، ما يمثل صعوبة واضحة في تقديم طعون ضد سيف القذافي في سبها أو حفتر في بنغازي. وفي هذا السياق، يواجه المعترضون على قانوني الانتخابات قيود طرق الطعن في المرشحين، وأيضاً صعوبة وقف العملية الانتخابية، تحت الزخم الدولي وتسارع المرشحين والبيروقراطية لبدء إجراءات الترشيح، ولعل الجوانب الأكثر أهمية تكمن في مرونة الإطار الدستوري، بحيث يصعب إثبات مخالفة القوانين. وفي سياق سابق، بدا القضاء الليبي غير راغبٍ في الانخراط في الأزمة السياسية، أهمها عندما رفض تشكيل لجنة قضائية لحل الصراع على السلطة، كما تجنبت الدائرة الدستورية، 26 يونيو/ حزيران 2014، الفصل في النزاع على العزل السياسي.
انتقل الخطاب الدولي في مؤتمر باريس أخيرا إلى الحديث عن "قاعدة التسليم الديمقراطي" لضمان أو فرض القبول بالنتائج
وعلى الرغم من حداثة التكوين الحزبي، يبدو توجّهها العام نحو المشاركة السياسية وفق القوانين الحالية، وذلك باستثناء بعض المنتمين لحركة الإخوان المسلمين، حزب العدالة والبناء، فيما الحزب الديمقراطي ينفتح على القبول بالقواعد الحالية. وفي هذا السياق، يمكن النظر لدعم مؤتمر باريس للمفوضية الوطنية من عوامل تفكيك القوى المعارضة لترشيح سيف الإسلام وحفتر، فمن جهة، ظلت الدول تمثل مركز الثقل في الاعتراف بالحكومات في ليبيا، وأكثر اهتماما بمعاقبة معرقلي الانتخابات. ومع التقدّم في الترشيح، من المُرجّح توجه أعضاء مجلس الدولة إلى تقديم أوراقهم وتعديل مواقفهم الرافضة للقوانين.
وعلى الرغم من تجاهل القوانين خريطة الطريق والاتفاق السياسي، أبدت الجماعة الدولية تأييدها عقد الانتخابات، إلى جانب الاهتمام بتسوية السلاح الأجنبي في ليبيا ودعم اللجنة العسكرية المشتركة 5+5، وضمان وقف إطلاق النار. وانتقل الخطاب الدولي في مؤتمر باريس أخيرا إلى الحديث عن "قاعدة التسليم الديمقراطي" لضمان أو فرض القبول بالنتائج، ولذلك ظهر ما يمكن اعتباره نظاماً للعقوبات ضد المشاركين في الإخلال بنزاهة الانتخابات والتلاعب بنتائجها أو رفضها. ويكشف تأجيل محاكمة حفتر في الولايات المتحدة، وتمكين سيف القذافي من الترشيح، عن تساند المواقف الدولية في دعم العملية السياسية، حتى تسليم السلطة لحكومة جديدة والاعتراف بشرعيتها.
وبغض النظر عن انعقاد الانتخابات في موعدها أو تأجيلها وفتح شرط الترشّح لرئيس الوزراء، فإن ما يمكن الإشارة إليه، أن عوامل الضعف الذاتية تجعل معارضي قوانين الانتخابات تحت قيود الفعاليات الليبية والدولية، وتحويلهم إلى وضع يفتقر للمبادرة والقدرة على تغيير القوانين، حيث يظهر التساند بين أطياف محلية ودولية في رفع مستوى التنسيق والتضامن في ما بين أركان النخبة السابقة وتصاعد زخم الراغبين في الترشيح، ما يراكم فجوةً تغيب فيها فرصة تعديل القوانين أو ضمان تزامن الانتخابات بنوعيها.