عن تأزيم الديمقراطية في تونس
لم تشهد تونس، على امتداد تاريخها السياسي الحديث، حالة ديمقراطية نوعية مثل التي شهدتها خلال العشرية المنقضية، فعلى امتداد عقد من اندلاع الثورة التونسية، انتقلت البلاد من الأحادية إلى التعدّدية، ومن هيمنة الفرد أو الأسرة على الحكم إلى التداول السلمي على السلطة، وجرى تنظيم انتخابات تشريعية، ورئاسية، وبلدية، شهدت جهاتٌ رقابيةٌ محلّية ودولية موثوقة بنزاهتها. وغدت الحرّية على التدريج أعدل الأشياء قسمة بيْن الناس. وتعدّدت منابر التفكير والتعبير ومسالك التنظّم الحزبي والجمعوي بشكل غير مسبوق في تاريخ البلاد. وساهم المنجز الحقوقي للثورة في تحرير إرادة الناس، وتعزيز شعورهم بالمواطنة. وجعل ذلك كلّه تونس تتصدّر مؤشّر الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي. لكنّ التجربة الديمقراطية التونسية الناشئة ظلّت، منذ ولادتها، مدار استهداف من قوى شعبوية داخلية ذات ميول سلطوية، ما انفكّت تبذل الجهد، والمال، والوقت بغاية تأزيم مشروع الدمقرطة في البلاد وإرباكه، والعودة بالناس إلى مربّع الدولة الشمولية.
منذ السنوات الأولى للانتقال الديمقراطي، واجهت تونس خطر صعود جماعاتٍ شعبويةٍ سلفية، دينية، راديكالية، استغلّت فضاء الحرّية والتعدّدية في البلاد لتروّج خطابا ادّعى امتلاك حقيقة الدين، والوصاية على ضمائر الناس، وانبنى على مقولة التأسيس للذات عبر تقويض الآخر، ومحاولة فرض نموذج سلوكي/ أخلاقوي على المجتمع. واعتبرت تلك الجماعات المتشدّدة الديمقراطية بدعةً غربية، دخيلة على مجتمع مسلم، وطالبت بإقامة دولة دينيّة/ شمولية محلّ الدولة المدنية/ الجمهورية وبتحكيم الشريعة الإسلامية بديلاً عن القوانين الوضعية، ورفضت تشكيل حزب سياسي، قانوني. وبلغ بها الأمر درجة تكفير حركة النهضة، ذات المرجعية الإسلامية، لأنّها تبنّت مشروع الدمقرطة ولم تنقلب على القوانين المدنية المعمول بها، ولم تنخرط في مسارات أخونة الدولة وأسلمة المجتمع. بل عقدت تحالفاتٍ مع أحزاب علمانية لإدارة مسألة الحكم. ولمّا لم يجد التيار السلفي المتطرّف له حاضنة اجتماعية كبيرة داخل الاجتماع التونسي، انصرف إلى ارتكاب أعمال عنفٍ وترهيب، أربكت السلم الاجتماعي، وأحيت نزاع الهوية والاستقطاب الثنائي في البلاد (مؤمنون/ كفّار، سلفيون/ حداثيون، رجعيون/تقدّميون)، وأثّرت تلك الأعمال سلباً في مردودية الاقتصاد التونسي عموماً، والقطاع السياحي خصوصاً. لكنّها لم تنجح في تقويض مشروع الدمقرطة، وذلك بسبب قوّة مكوّنات المجتمع المدني (أحزاب، نقابات، جمعيات)، وتمسّكها بترسيخ أركان الدولة المدنية/ التعدّدية واتحادها في مواجهة دعاوى التطرّف، والإرهاب، وكذا لغلبة ما يُعرف بالإسلام المعتدل/ المتسامح على السلوك الديني لجلّ التونسيين.
استغلّ الحزب الدستوري الحر الواقع الديمقراطي ليعد بالانقلاب على الديمقراطية ومخرجات الثورة، ووظّف حضوره في البرلمان، ليروّج خطابا مفعماً بالكراهية والشعبوية
على صعيد آخر، رأى ما يُعرف بجمهور الثورة المضادة، وقوى الشدّ إلى الخلف التي تتكون أساساً من رموز النظام القديم ومرتكبي الانتهاكات ضدّ المواطنين، ورجال الأعمال الذين تعلّقت بهم شبهات فساد، في مشروع الدمقرطة في تونس خطراً عليهم، لأنّه يُمكن أن يؤسّس لدولة القانون والشفافية، والمساءلة والمحاسبة. لذلك بذلوا الجهد والمال والوقت، وحشّدوا الناس لتعطيل الحالة الديمقراطية وتشويهها. وفي هذا السياق، أطلق لوبي الثورة المضادّة قنوات إعلامية عديدة، أدمنت على امتداد عقد كامل تزييف الوعي الجمعي، وتشويه السياسيين والحقوقيين والثوّار الذين ناضلوا ضدّ الدولة القامعة على عهد زين العابدين بن علي، وعمدت إلى تبييض الدكتاتورية ورموزها وسياساتها وأعوانها، وتيئيس الناس من الديمقراطية، والعمل على تبخيس منجزها الحقوقي وأفقها التقدّمي. وبلغت شراسة الثورة المضادّة أوجها بصعود الحزب الدستوري الحر، سليل النظام القديم، إلى مجلس نوّاب الشعب، وهو حزب إقصائي، يميني، متطرّف، استغلّ الواقع الديمقراطي ليعد بالانقلاب على الديمقراطية ومخرجات الثورة، ووظّف حضوره في البرلمان، ليروّج خطابا مفعماً بالكراهية، والشعبوية وعبارات الوصم تجاه مخالفيه. وعطّل أشغال المجلس النيابي مراراً بشكل فوضوي، وهو ما أثّر سلباً في أداء المؤسسة التشريعية، وساهم في ترذيل المشهد البرلماني، وتنفير الناس من السياسة والسياسيين. والمراد من ذلك كلّه تأزيم المنوال الديمقراطي وإثبات فشله في إدارة الاجتماع التونسي، والتمهيد لاستعادة نموذج الحكم الشمولي/ الأحادي.
أدّى الصراع المحموم على الصلاحيات إلى تأزيم الحالة الديمقراطية في تونس. ولم يتفاعل قيس سعيّد بجدّية مع مبادرة الاتحاد العام للشغل لحلّ الأزمة السياسية
صعد الجامعي، وأستاذ القانون الدستوري، قيس سعيّد، في 2019، إلى سدّة رئاسة البلاد، رافعاً شعار "الشعب يريد" وهو شعارٌ شعبوي، جذّاب، دغدغ مشاعر الناس وشوقهم إلى الكرامة والعدالة والرفاه والتنمية الشاملة، وصوّت له عدد معتبر من المتحزّبين وغير المتحزّبين الذين ظنّوا أنّه سيكون رئيساً وفاقياً جامعاً، ضامناً احترام الدستور واستكمال مشروع الدمقرطة. وبعد أقل من عامين من تولّيه منصب الرئاسة، تبيّن أنّ الرجل يضيق بالصلاحيات التي يمنحها له الدستور، ويبذل الجهد لتوسيعها، ولم يفعل ذلك عبر التواصل مع الأحزاب وتقديم مبادرات تشريعية للبرلمان، بل بدا ميّالاً إلى تزكية قول أنصاره إنّه يحتكر تأويل الدستور، والحال أنّه مطالبٌ بالسهر على احترام تطبيقه، لا باحتكار تأويله. وتجلّى النزوع السلطوي للرجل من خلال تشبّثه بمقولة "حكومة الرئيس" ورفضه ختم قانون المحكمة الدستورية لأنّها جهاز رقابي، يحدّ من نفوذه، ورفضه القبول بالتعديل الوزاري الذي أجراه هشام المشيشي، وزكّاه البرلمان، لأنّه أدّى إلى تنحية وزراء موالين له، وكذا من خلال قوله إنّه القائد الأعلى للقوات الأمنية والعسكرية جميعاً. وأدّى الصراع المحموم على الصلاحيات إلى تأزيم الحالة الديمقراطية في تونس. ولم يتفاعل قيس سعيّد، بجدّية مع المبادرة التي قدّمها الاتحاد العام التونسي للشغل، قبل شهور لحلّ الأزمة السياسية. واغتنم أخيراً تذمّر الناس من ارتفاع الأسعار، وتزايد نسبة البطالة، ومن سوء إدارة الحكومة جائحة كوفيد 19، واندلاع بعض الاحتجاجات، محدودة العدد في بعض المدن، ليعلن في بيان متلفز استيلاءه على السلطات الثلاث (التنفيذية، والتشريعية، والقضائية)، وتجميده أعمال البرلمان، وإقالته رئيس الحكومة، وبعض الوزراء واعتزامه تعيين رئيس حكومة جديد، وأنّه يتحمّل مسؤولية المدّعي العام في البلاد، وحدّد لاحقاً مدّة التدابير الاستثنائية بشهر. وبرّر تلك القرارات بالاستناد إلى الفصل 80 من الدستور.
المشرّع التونسي حريص على الفصل بين السلطات، وعدم مركزتها في يد شخص واحد. وما أقدم عليه سعيّد من تجميع للسلطات بيده اعتداء من سلطة رئاسية على سلطات مجاورة
عارضت معظم الأحزاب التونسية الوازنة (حركة النهضة، قلب تونس، ائتلاف الكرامة، التيار الديمقراطي، حزب العمّال، الحزب الجمهوري، الحزب الاشتراكي …) تلك التدابير كلّياً أو جزئياً، وعدّتها بعض الأحزاب عملية انقلابية، واعتبرتها أخرى اختراقاً جسيماً للدستور أو تجاوزاً لمنطوقه. والحزب الوحيد الذي أيّد القرارات الرئاسية مطلقاً هي حركة الشعب، وهي حركة قومية كلاسيكية مضادّة للربيع العربي، ومعروفة بتأييدها أنظمة وزعامات شمولية (القذافي، الأسد، السيسي). كما أنّ المنظمات المدنية الفاعلة (اتحاد الشغل، نقابة الصحفيين، الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، جمعية القضاة ...) تعاملت بحذر مع تلك القرارات، ودعت إلى ضرورة احترام الدستور والحريات العامة والخاصّة، والنأي بالجيش عن التجاذبات السياسية، وعدم تحويل التدابير الاستثنائية إلى تدابير مستدامة وضرورة الالتزام بمدّتها المحدودة. أمّا دولياً، فدعت منظمات حقوقية وسياسية وازنة (الاتحاد الأوروبي، الأمم المتحدة، منظمة العفو الدولية، منظمة المجتمع المفتوح…) الرئيس التونسي إلى التراجع عن التدابير الاستثنائية الشمولية التي أقدم عليها، والسماح للبرلمان باستئناف نشاطه. وطالبت قوى دولية وازنة (أميركا، بريطانيا، ألمانيا، فرنسا) قيس سعيّد بمحاورة مخالفيه السياسيين، واحترام المؤسّسات المدنية والهيئات التمثيلية المنتخبة، والحريات العامة والخاصّة، والعودة سريعاً إلى المسار الدستوري، واستئناف مشروع الدمقرطة. ويفسّر هذا الحذر الذي يشوبه الامتعاض من مبادرة قيس سعيّد، بأنّ مراقبين وقانونيين كثيرين يرون بعض التدابير التي اتخذها غير دستورية، وتؤدّي إلى تعطيل الحالة الديمقراطية، ذلك أنّ الفصل 80 من الدستور لا ينصّ على تجميد البرلمان في حالة الخطر الداهم (على افتراض وجوده). بل يظلّ "مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طوال هذه الفترة. وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حلّ مجلس نواب الشعب كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة". ومن ثمّة، ليس من صلاحيات رئيس الجمهورية تعليق عمل البرلمان، ولا إقالة رئيس الحكومة أو وزراء آخرين. كما لا يسمح الدستور التونسي لرئيس الجمهورية بتولّي مهام النائب العام، فالمشرّع التونسي حريص على الفصل بين السلطات، وعدم مركزتها في يد شخص واحد. وما أقدم عليه سعيّد من تجميع للسلطات بيده يُعدّ، في نظر قانونيين، اعتداء من سلطة رئاسية على سلطات مجاورة (تنفيذية، تشريعية، قضائية). لذلك رأى معظم فقهاء القانون في مبادرة سعيّد تجاوزاً للدستور، وتعسّفاً في استخدام السلطة. وعدّها أستاذه في القانون الدستوري، عياض بن عاشور، عملية انقلابية تامّة الأركان. ويخشى تونسيون من أن تكون مبادرة الرئيس تمهيداً لإرساء حكم رئاسوي، أحادي، عسكري، مستدام ومطلق.
ختاماً، لم يبذل الفاعلون السياسيون وأصحاب القرار الجهد الكافي خلال العشرية المنقضية لتحصين الديمقراطية بحزام شعبي، ومؤسّسي، وثقافي، ودستوري يحميها من أعداء الديمقرطية، ولم يرفدوا الانتقال السياسي بانتقال اقتصادي، فأدّى ذلك إلى تنامي نوستالجيا الدكتاتورية وصعود الزعامتية/ الشعبوية. والثابت أنّ الديمقرطية التونسية حالياً في مأزق، ولا سبيل لفكّ مغالق الأزمة إلّا بجلوس الفرقاء السياسيين إلى طاولة الحوار، والالتزام بالعودة إلى المسار الدستوري، والتوجّه لاحقاً إلى صناديق الاقتراع. وإن لم يكن ذلك فإنّ تونس تسير إلى المجهول لا محالة.