عن تحدّيات عملية استعادة الدولة السورية ومجتمعها
تُعدُّ التجربة السورية واحدةً من أغرب التجارب المأساوية وأعمقها في العصر الحديث بعد الحرب العالمية الثانية، نسبة لما خلّفه النظام الحاكم من إرث موغل في الفساد، على المستويات والمجالات المجتمعية والاقتصادية والسياسية والتشريعية والأمنية، مع أخطبوط الفرق العسكرية وأجهزة المخابرات التي تغوّلت على الدولة والمجتمع، وأيضاً، نسبة للانهيار المريع والمفاجئ للنظام المخلوع، بتداعياته وتعقيداته، وهو ما يجعل من عملية الإصلاح واستعادة الدولة عمليةً شاقّةً وغاية في الصعوبة، نسبة للكارثة التي أنزلها النظام بالسوريين، من قتل واعتقال وتدمير وتشريد، سواء الذين كانوا تحت سيطرته، أو في الشمال في مناطق النزوح، أو في بلدان اللجوء.
القصد أن عملية استعادة الدولة والمجتمع تستلزم المضي إلى ما بعد نشوة الانتصار على مؤسّسة القمع الأسدية، بالبدء ببناء أساسيات، أو مستلزمات، المرحلة الانتقالية، ما يتطلّب إصدار إعلان دستوري مؤقّت خطوةً أساسيةً لتحديد القواعد العامّة لإدارة شؤون البلاد، مع ضمان التوافق الوطني، عبر إشراك جميع القوى السياسية والمجتمعية في صياغته. وبالتوازي، يُحضَّر لحكومة شاملة تعمل لإصلاح المؤسّسات التي كانت أدواتَ النظام السابق، مثل القضاء والإعلام والجيش، وتفعيل العدالة الانتقالية من خلال هيئة مستقلّة تحقّق في الجرائم والانتهاكات، مع التركيز في التسامح والمصالحة الوطنية، بدلاً من الانتقام، والعيش في نوازع الماضي. وتالياً، نزع مشاعر الكراهية والتعصّب والانغلاق التي زرعها النظام بين السوريين.
تستلزم استعادة الدولة والمجتمع المضي إلى ما بعد نشوة الانتصار على مؤسّسة القمع الأسدية ببناء أساسيات المرحلة الانتقالية
إن إدارة التنوّع في سورية الجديدة لا تعني الالتفات إلى منح مكوّن ما مزايا معيشية لا يحظى بها آخر، بل يعني العودة إلى مبدأ المواطنة المتساوية، فقد استهلك مصطلح "حماية الأقلّيات" زمناً طويلاً، ما يجعلنا اليوم أمام مسؤولية حماية بعضنا بعضاً دستورياً وتنفيذياً، مواطنين أحراراً ومتساوين، فما مرّت به سورية يؤكّد أن نصيب "الأكثرية" من الظلم والاعتداء على حقوقهم لا يقلّ عما أصاب أقلّيات ومذاهب عديدة في سورية، بل كان للأكثرية "السنّية" (وعذراً لاستخدام المصطلح) نصيب الأسد من الأسد المتوحّش، من القتل والاعتقالات والتغييب والتشريد، ما يفرض على السلطة اليوم أن تضع نصب عينيها ما عاناه الشعب خلال 54 عاماً من حكم الأسدَين (الأب والأبن)، وصولاً إلى لحظة الخلاص في 8 ديسميبر/ كانون الأول 2024، والتي يريدها الشعب انفصالاً تامّاً عن استبداد السلطة وأبديتها.
إطلاق حوار وطني شامل يضم المكوّنات العرقية والدينية والسياسية كافّة أحد المهمات التي تقع على عاتق السلطة الحالية لتحديد مستقبل البلاد، مع التركيز في معالجة آثار الحرب ودعم ضحايا النزاع ضمن مبادرات المصالحة الوطنية. المرحلة الانتقالية في سورية، رغم تعقيداتها وصعوباتها، يجب أن تكون مدفوعةً بإرادة قوية للتغيير، وبمشاركة واسعة من جميع الأطراف السورية، إذ لا يمكن لأيّ عملية سياسية أن تنجح إذا تجاهلنا الواقعين، الاجتماعي والسياسي، اللذين خلّفتهما سنوات الحرب. أيضاً لا بدّ من إيجاد بيئة تشجّع على المصالحة الحقيقية، فتقدّم التعويضات للضحايا، والمساعدات في إعادة بناء حياتهم. كما أن التركيز في تعزيز حقوق الإنسان وحمايتها في المستقبل سيكون أساساً لضمان عدم العودة إلى أساليب القمع السابقة.
من ناحية أخرى، لا يمكن بناء دولة ديمقراطية من دون إصلاح حقيقي للنظامين، التعليمي والإعلامي، فالتعليم وسيلة لتغيير العقلية المجتمعية، وتعزيز قيم التسامح والتعايش السلمي، بينما الإعلام أداة لنشر الحقيقة ومكافحة خطاب الكراهية والتطرّف، ما يتطلّب إعادة بناء هذه المؤسّسات بما يتماشى مع معايير الشفافية والمهنية.
الشعب السوري، الذي عانى (وذاق) مرارة القمع والتدمير، هو المحرّك الأساس لهذا التغيير، وهو يحتاج من الهيئة الحاكمة لإرادة سياسية حقيقية وإدراك عميق بأن مستقبل سورية مرهون بتجاوز الانقسامات الطائفية، والأيديولوجية، لمصلحة بناء وطن موحّد وآمن للجميع.
من جهة أخرى، من شأن تمهيد الطريق أمام الدول لفتح سفاراتها في دمشق، في هذه المرحلة، لعب دور حيوي في دعم العملية الانتقالية، إذ يعكس ذلك اعترافَ المجتمع الدولي بالوضع الجديد، ويمنح الشرعية للسلطات المؤقّتة، ما يعزّز الثقة الداخلية والخارجية بمسار التحوّل السياسي، ويسهّل قنوات الاتصال بين سورية والدول الأخرى، كما يسهّل تنسيق الدعم المالي والتقني والإنساني المطلوب لإعادة الإعمار، ويعزّز التعاون الدبلوماسي في مجالات مثل مكافحة الإرهاب، وعودة اللاجئين، ودعم بناء مؤسّسات الدولة الجديدة.
أبرز التحدّيات التي تواجه بناء الدولة الجديدة مقاومةُ عناصر فاسدة في النظام السابق قد تعرقل العملية الانتقالية
بيد أن تلك الخطوات كلّها يفترض أن تتمحور حول صياغة دستور جديد لبناء الدولة الجديدة، وبالتوازي، تسهيل عملية بناء نظام سياسي تعدّدي من خلال السماح بتشكيل الأحزاب السياسية، فقوة السلطة من وجود من ينتقدها، ويراجع أخطاءها، كما يساندها ويقيّمها، ما يعني أن الأحزاب الناشئة ليست بالضرورة مؤيّدة، بل قد تدفع معارضتها السياسية والسلمية إلى بناء متين للدولة الديمقراطية، وفتح المجال للإعلام الحرّ، مع ضمان استقلال القضاء والفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. ولعلّ تجاوز ما كان في الماضي من حكم مركزي مستبدّ وفاسد، عمل على إعاقة التنمية المناطقية عقوداً من الزمن، يجعل من التوجّه إلى اعتماد نظام حكم لامركزي ضرورةً تنمويةً لمنح المجتمعات المحلّية القدرة على إدارة شؤونها بمسؤولية وفعّالية.
ومع وجود تلك الطموحات كلّها التي أنعشها تحرير سورية من براثن الأسد، لا يمكن إنكار وجود تحدّيات كبيرة أخرى تواجه بناء الدولة الجديدة، أبرزها مقاومة بعض عناصر النظام السابق الفاسدة التي قد تسعى إلى عرقلة العملية الانتقالية من خلال تلوّنها، وإعلان ولائها الكاذب للحكم الجديد، كما يأتي ضمن ذلك إيجاد الطرائق لكبح الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية.