عن تعويذة تأسر الواقع والتغيير وسمير قصير
"عودوا إلى الشارع أيها الرفاق، تعودوا إلى الوضوح". هي جملة كتبها الكاتب والصحافي والأستاذ الجامعي سمير قصير بعد "انتفاضة الاستقلال" وقبل أشهر من اغتياله في 2 يونيو/ حزيران 2005، وكانت بمثابة ردّ فعل هادف إلى استنهاض شعب "ثورة الأرز 14 آذار" بمواجهة التحالف الرباعي الذي كان يتشكّل في حينه بين الثنائي الشيعي (عصب قوى 8 آذار)، وبين تيار المستقبل والحزب التقدّمي الاشتراكي (عصب قوى 14 آذار)، أي طرفي الصراع السلطوي، بهدف خوض الانتخابات النيابية عام 2005. أي أن قصير كتب الجملة في ظرفٍ محدّد، ومكان محدّد، وفي موضع سياسي محدّد، قبل أن تصبح بمثابة تعويذة يلقيها أيًّ أحد، ويسقطها على أي موضع، وفي أي لحظةٍ وسياق، على اعتبار أنها العلاج لكل شيء. وكأنها حبة "بنادول Panadol" سياسية لمعالجة كل الأوضاع والأوجاع والسلوك من كل تأزّم. حبّة تظهر نتائجها بشكل سحري، وتستطيع مواجهة مطلق فراغ يعيشه واقع سياسي لأفرادٍ لا ينتجون سوى التشتّت كالذي نعيشه في لبنان اليوم، والمرافق لسلوك سلطةٍ تهدف إلى عرقلة التحقيق في انفجار المرفأ، وسلوك ترافقه الوقاحة في استدعاء أهالي الشهداء الذين لم يعد أمامهم أي شيءٍ إلا المواجهة.
لم يتبدَّ الصراع الاجتماعي والسياسي تاريخيًا على هذا النحو من الوضوح المزعوم الذي تؤدّيه الجملة أعلاه. والمشكلة الكبرى أن الصراع لن يكون على هذا النحو من الوضوح في المستقبل أيضًا. ففي أكثر القراءات الفوضوية تفلتًا، من الصعب البقاء على هذا النحو من العشوائية والتسرّع، سواء في العمل، أو في المواجهة، أو في السلوك، كل الوقت. بل لا بد من سياق عقلاني تكون الدعوة إلى الشارع نافعةً فيه، مع التنبّه إلى أن الدعوة، وفي أحيان كثيرة أخرى، قد تكون إلى الشارع مميتة أيضًا فيه.
المشهد الذي يرتسم في أفق لبنان من الصعب أن يؤدي إلى نتيجةٍ مختلفةٍ عن الصدام
على سبيل المثال، تأتي دعوات إلى النزول إلى الشارع اليوم في غير مكانها، خصوصًا بعد انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، وبعد استقالة حكومة سعد الحريري، وبعد هيمنة قوى 8 آذار على مجمل المشهد السياسي، وعلى الدولة بكل تفصيلاتها، وبعد مراحل الانهيار المتعاقبة التي نعايشها، والإمعان في الانهيار المتمثّل في إجراء الانتخابات، ومشاركة "التغييريين" فيها. حيث لم يعد بالإمكان السلوك وفق قاعدة عشوائية على هذا النحو، وكأن مجرّد النزول إلى الشارع هو الطريق الأسرع للوضوح. في حين أن المعادلة قد تكون على خلاف ذلك تمامًا، إذ لا بدّ للشارع، في هذه اللحظات بالذات، وفي سبيل أن يكون شارعًا، من وضوح أوليّ يرافقه، أو بالأحرى يسبقه، وإلا فلن يكون الشارع شارعًا بالأساس، ولن يحشد أي جماعة بشرية مهيأة للمواجهة.
قد يكون العنوان الأبرز اليوم، والذي يفترض تمسّك قوى التغيير به، في ظلّ هذا الانهيار والتوتر والانسداد الذي نعيشه، وفي ظل الإمعان في نصب أموال الناس ومصائرهم، والالتفاف على كل الحقوق والتحقيقات، والالتفاف على جريمة المرفأ، هو الضرورة التي لا بد من الوضوح فيها قبل كل شيء، الوضوح في النظرية والقراءة والمشروع. وهذه كلها لا تتأتى في الضوضاء، بل في الهدوء والإمعان في التفكير والحوار بعيدًا عن كل المؤثرات والضغوط. ولا بد فوقها، من وضوح في التنظيم وفي آليات المواجهة، خصوصًا وأن المشهد الذي يرتسم في أفق لبنان من الصعب أن يؤدي إلى نتيجةٍ مختلفةٍ عن الصدام. بل يمكن اعتبار الصدام وكأنه واقع الحال، وإن كان بشكلٍ باردٍ ومؤجل.
هذه التعاويذ التي كان من الممكن أن تصحّ في بعض الأحيان، مشكلتها الوحيدة والأساسية أنها لا تصحّ إلا في لحظات شاردة وعشوائية ومتفلتة من كل سياق في تاريخ حركات المواجهة، خصوصًا عندما يكون السياق فارغًا ومتفلتًا من آليات الفعل السياسي. هي مجرّد لحظة ترتفع إلى مستوى إطلاقي من دون أي مسوّغ، سيما عندما ننطلق من حقيقة أن كل مسار مواجهة له زمانه ومكانه وايقاع خاص لا يمكن إسقاطه على أي مسار أو شروط مواجهة أخرى.
تفرض دعوات النزول إلى الشارع كثيراً من التأنّي، وتفرض سيلاً من الأسئلة الواقعية التي يتحتّم التفكير فيها مليًا
تأسيسًا على ذلك، من المنطقي النظر ليس في تحرير حركات الشارع من شعار سمير قصير، ومن شعارات غيره أيضًا، بل تحرير سمير قصير وشعاره، وتحرير شعارات غيره، من القراءات التعويذية التي تأسرهم في جمل وعناوين برّاقة، وكأن كلامهم حبة سحرية وإن كانت مأزومة أو منتهية الصلاحية.
لذلك، تفرض دعوات النزول إلى الشارع كثيرا من التأنّي، وتفرض سيلا من الأسئلة الواقعية التي يتحتّم التفكير فيها مليًا قبل ذلك: الشارع لمواجهة من؟ ولقول ولفعل ماذا؟ ناهيك عن أسئلة على نحو: من قال إن كل إمكانية للقول والفعل، في ظل هذا الانسداد المحكم، لن تعاني من الانسداد هي الأخرى؟ ومن يستطيع التأكيد على أن أية حركة اليوم لن تصبّ في خدمة قوى السلطة، لا لشيءٍ إلا لأنها الأقدر على تجييرها لغاياتٍ لم تكن في حسبان من وجّه الدعوات؟ ومن يضمن أن السلطة لن تستطيع التلطّي خلف الشارع، لتحقيق أمرٍ كان بحاجة لغطاء، وقد جاءتها الفرصة على طبقٍ من فضة؟
لقد انطلق مشروع استباحة بيروت في 7 مايو/ أيار 2008 بالتلطّي خلف الشارع، كما أتت أحداث الطيونة بالتلطّي خلف الشارع أيضًا. وفي السياق إياه: أليس من الممكن أن تتلطّى وتستغلّ قوى السلطة أي دعوة للنزول إلى الشارع، في محاولاتها المستمرّة للخروج من المأزق والانسداد الذي تتحمّل مسؤوليته كاملًا وتأخذه على عاتقها اليوم؟