عن حسابات شخصية في الانتخابات الليبية
أيام قليلة تفصل الشعب الليبي عن إجراء الانتخابات الرئاسية المزمع إنجازها في 24 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، ولا شيء يوحي بأنها ستتم في موعدها، فالحملات الانتخابية لم تبدأ، ومفوضية الانتخابات ما زالت تعاني من ترتيب مستلزمات إجرائها، بالإضافة إلى ما يعرفه المشهد الليبي من تعقيدات متتالية، تحتاج إلى إعادة تقريب وجهات النظر، على الأقل إلى الحد الأدنى الضروري، لإنجاح المرحلة.
مع إقرار حق الترشّح للشخصيات الأكثر إثارة للجدل في ليبيا، سيف الإسلام القذافي وخليفة حفتر وعبد الحميد الدبيبة، تحولت الانتخابات من مناسبةٍ لحل الأزمة السياسية للدولة الليبية إلى فرصة لحل مشكلات شخصية، وربما تخليق أزمات جديدة، فبعد عودة سيف الإسلام إلى السباق بحكم قضائي، تحوّلت مشاركته إلى ملاذٍ يتمسّك به للنجاة مما ينتظره، بوصفه مطلوباً لدى المحاكم الدولية، وفي الوقت نفسه، تحوّل هو ذاته إلى القشّة التي يجتمع حولها أنصار نظام القذافي، أملاً في استعادة بعض هيمنتهم السابقة. ولم يكن من المفاجئ في هذا السياق أن يظهر ابن عمه أحمد قذّاف الدم، ليقول إنّ أتباع القذافي هم "أسود الغابة" في رسالة ضمنية موجهة إلى خليفة حفتر الذي كان الطرف الأكثر حرصاً على استبعاد سيف الإسلام من السباق الانتخابي، ليقينه أنه الطرف الذي ينافسه على الخزّان الانتخابي نفسه، بما يخدم مصلحة مرشّحين آخرين أقوياء، مثل عبد الحميد الدبيبة.
قرارات القضاء التي أعادت الدبيبة وسيف الإسلام إلى المنافسة مثلت ضربة قاصمة لطموحات حفتر الانتخابية
ولا يُخفي خليفة حفتر رغبته الشديدة في الوصول إلى رئاسة ليبيا، بما يتقاطع مع طموح شخصيٍّ من ناحية، والحصول على حصانة رئاسية تحميه من الملاحقة أمام المحاكم الأميركية. وفي الوقت نفسه، اكتساب صفة شرعية، ظلّ يحلم بها منذ أعلن تمرّده على السلطة المركزية في بلاده سنة 2014. ولهذا كان حريصاً على تمهيد السبل أمام طموحه الشخصي، مستفيداً في ذلك من هيمنته على برلمان طبرق. وكانت أولى الخطوات إقرار قانون انتخابي معيب، في غياب قاعدة دستورية تحدّد مدة الرئاسة وصلاحيات الرئيس، وغياب الهيئات الرقابية القادرة على مساءلته، وعزله في صورة تجاوزه صلاحياته. والأهم من هذا حرص برلمان طبرق، برئاسة عقيلة صالح، على وضع قانون لمنع رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبد الحميد الدبيبة، من الترشّح، غير أنّ قرارات القضاء التي أعادت الدبيبة وسيف الإسلام إلى المنافسة مثلت ضربة قاصمة لطموحات حفتر الانتخابية، وربما دافعاً لموقفه الجديد المتروّي في استعجال الانتخابات التي كان متحمّساً لها. ومع وصول المبعوثة الأممية الأميركية، ستيفاني وليامز، تتلقى طموحات خليفة حفتر صفعةً أخرى، خصوصاً وهي الحريصة على إعادة ترتيب المسار السياسي للبلاد الذي اشتغلت عليه، عندما كانت تتولى منصب المبعوثة الأممية بالإنابة، ما بين مارس/ آذار وديسمبر/ كانون الأول 2020، وهي تؤمن بضرورة إجراء الانتخابات الرئاسية والنيابية بالتوازي، بما يفسد حسابات حفتر وحليفه عقيلة صالح.
في ظلّ التجاذب الحادّ الذي يسيطر على المشهد السياسي الليبي، من الصعب التكهن بمخرجات الانتخابات المقبلة
وفي مواجهة ترشّح خليفة حفتر وسيف الإسلام القذافي، كان عبد الحميد الدبيبة الشخصية التي قلبت المشهد السياسي، وسيكون لها تأثير حاسم في الانتخابات، فهذا المرشّح الذي لا يحمل وزر الحرب الأهلية مثل منافسه حفتر، وليس سليلاً لنظام الاستبداد السابق مثل سيف الإسلام، حقق صعوداً لافتاً في أثناء توليه رئاسة حكومة الوحدة الوطنية لأشهر، واستطاع أن يكسب ثقة جمهور واسع من الليبيين الراغبين في الوصول إلى حالةٍ من الاستقرار والخروج من النزاع المدمّر الذي انخرطت فيه البلاد سنوات، بالإضافة إلى أنّه الشخصية الأبرز ضمن مرشّحي مناطق الغرب الليبي التي تمثل الثقل السكاني للبلاد، وهو ما يعني أنّ إمكانية صعوده إلى الرئاسة تظل واردة جداً، خصوصاً إذا استمر التناحر الانتخابي بين خليفة حفتر وسيف الإسلام في مناطق الشرق والجنوب الليبيين.
تستلزم قراءة المشهد الانتخابي الانتباه إلى أنّ الصراع بين المتنافسين يتجاوز مجرّد الوصول إلى السلطة، وإنّما تنظر إليه بعض الأطراف بوصفه امتداداً للصراع المسلح الذي توقف من دون غلبة طرفٍ على آخر، ومحاولة للسيطرة على البلاد عبر الانتخابات (مهما كانت نقائصها) بعد العجز عن السيطرة عليها بقوة السلاح على الأقل. هذا ما يبدو لدى متابعة تصريحات مؤيّدي المرشّح حفتر، ومنافسه سيف الإسلام، واستعراض القوة المتبادل بينهما. وفي ظلّ هذا التجاذب الحادّ الذي يسيطر على المشهد السياسي الليبي، من الصعب التكهن بمخرجات الانتخابات المقبلة، سواء تمّت في تاريخها الحالي (وهو ما يبدو مستبعداً) أو تم تأجيلها للسنة المقبلة، لأنّ شروط الحياة السياسية السليمة لم تتوفر بعد ومنطق المغالبة ما زال مهيمناً على المرشّحين من قادة المليشيات، وهو ما يحتاج إلى مزيد من الحكمة والروية من أجل تحقيق الحدّ الأدنى من المصالحة في ليبيا.