عن رجلٍ ينتج أرانب وقبّعات
انخفض سعر صرف الدولار في السوق السوداء اللبنانية من دون أن ينخفض، وارتفع سعر صرف منصة صيرفة التي يحدّدها مصرف لبنان (لضبط سعر الدولار) من دون أن يرتفع. هذه هي المعادلة التي وضعها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عندما أصدر تعميمه 27، الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول)، والقاضي برفع سعر صرف الدولار على منصّة صيرفة إلى 38000 ليرة لبنانية بعد أن كان 31200 (علمًا أن معظم الموظفين تقاضوا رواتبهم بالدولار وعلى سعر المنصة القديم حتى بعد صدور التعميم)، وذلك بسبب عمليات المضاربة وتهريب الأموال إلى خارج لبنان، والتي أدّت، على حد زعم سلامة، إلى ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق السوداء حوالي ألفي ليرة لبنانية خلال فترة عيد الميلاد (ارتفع إلى 48000 ليرة)، مضيفًا أن "هذا الارتفاع سبّب تضخمًا في الأسواق، ما أضّر بالمواطن اللبناني، كون الأسعار في لبنان ترتبط بسعر صرف الدولار".
من الواضح أن اللبنانيين باتوا يضيعون أمام محاولة معرفة ما هو أشدّ وطأة عليهم في هذا التعميم، هل هو تبرير الارتفاع المستمر لسعر الصرف في السوق السوداء من خلال رفع سعر منصّة صيرفة، وما سيليها من ارتفاع في أسعار السلع بالضرورة؟ أم محاولة تأويل اللذة التي يشعر بها رياض سلامة وقوى السلطة جرّاء التلاعب بالشعب اللبناني وبمصيره، والمراهنة بما تبقى من مدّخراته ورواتبه، وصولًا إلى إطاحة المساعدات التي أقرّتها الحكومة للموظفين في الموازنة الأخيرة؟
يعيش اللبنانيون في حالة لا سلم ولا حرب، نتيجة حربٍ أهليةٍ انتهت من دون أن تنتهي
لطالما كان التشبيه المستخدم سابقًا، والذي يهدف إلى إظهار مدى حنكة أي شخصية، ينبع من عمليات الخفة والسحر التي يؤدّيها، حيث يكون الساحر، أي رجل السياسة أو رجل الدولة في هذه المعادلة، قادرًا خلال العرض الذي يؤدّيه على إخراج أرنبٍ من القبعة التي بحوزته، وبالتوازي قادرًا على استخراج الحلول من أرض الواقع القاحلة. إلا أنه، والحقّ يُقال، استطاع رياض سلامة ليس فقط إخراج أرنبٍ واحدٍ من القبعة، بل مجموعة أرانب، كما أنه أظهر قدرته الفائقة على استخراج القبّعات نفسها. بمعنى أن الرجل، ومع كل قرار يتّخذه، ومع كل تعميمٍ يصدره، يؤكّد مرة جديدة أنه ليس مجرّد موظف في الدولة اللبنانية، وليس مجرّد حاكم للمصرف المركزي، بل حاكم حتى أشد الحكّام الذين يظهرون عداءهم تجاهه. لقد استطاع أن يحميهم ويعوّمهم خلال كل هذه السنوات، واستطاع أيضًا أن يُعوِّد الشعب اللبناني على كل ما سيأتي من أزمات ومآزق وإذلال، كما قال في أحد تصاريحه في بداية مرحلة الانهيار.
والحقّ يُقال، أيضًا، لا يمكن أن يُغفل المكر الكامن في التعميم، والذي تجلى في محاولة إظهار سلامة نفسه وكأنه الضنين بمصلحة المواطن اللبناني، وبمصيره. وهو إن دل على شيء، فعلى دهاء هذا الرجل أيضًا وأيضًا، فسلامة شارك السلطة في حماية المصارف، حين صادرت أموال الناس وتعبهم، كما أنه استخدم جزءا كبيرا من أموال الناس ومن الاحتياط المركزي في آلية تعويم النظام السياسي، بالإضافة إلى دوره الحاسم في إلهاء الناس بلقمة عيشهم منذ أربع سنوات. حيث تفيد آخر الإحصائيات الرسمية بأن قيمة الاحتياط بالدولار لا تتخطّى 10 مليارات دولار في أحسن الأحوال، وبمعدّل انخفاض يقارب ثلاثة مليارات دولار عن بداية العام، وانخفاض حوالي 22 مليار دولار عن بداية الانهيار عام 2019.
ليس غريبًا على اللبنانيين أن يعيشوا هذا القلق النابع من التلاعب بمصيرهم الذي تجيده السلطة اللبنانية جيدًا، ورياض سلامة أحد أركانها. كما أن الحالة الحرجة التي يعيشها اللبنانيون تنقلًا بين مستوياتٍ مختلفةٍ تحت سقف واحد ليست جديدة، فهم يعيشون في حالة لا سلم ولا حرب، نتيجة حربٍ أهليةٍ انتهت من دون أن تنتهي، فتم تعليقها بصيغة لا غالب ولا مغلوب، في دولة نظامها ليس بالعلماني ولا بالديني ولا بالديمقراطي ولا بالجماعاتي، علمًا أنها دولةٌ محكومةٌ بذهنية التاجر والوطني ورجل العصابة والحاكم في آن، وفيها مزيج من التلازم بين رأسمالية جشعة وذهنية إقطاعية، وهي دولة وساحة وصندوقة بريد في الوقت ذاته ... إلخ.
نهاية 2022 من أسوأ نهايات الأعوام، وترافقت مع تجدّد أزمات الناس مع المصارف
أي أنها دولة محكومة بمزيج من الثنائيات التي تقوّض بعضها بعضا لتصل بالشعب إلى نتيجة واحدة فقط، أن حالة الانهيار التي يعيشها مستمرّة إلى ما لا نهاية، ومن دون الحاجة إلى أي وازع خارجي. بل إن كمية العوائق الداخلية تمنع إنتاج أي حل جدّي، فهي عوائق لا إمكانية معها لكل محاولات التعويم الخارجية. المأزق بنيوي، بالحكّام والطبقة الحاكمة نفسها، وبمنطق العلاقات الكامنة، فالحلّ لم يعد متاحًا داخليًا ليجد من يعزّزه خارجيًا.
نهاية عام 2022 واحدة من أسوأ نهايات الأعوام، وترافقت مع تجدّد أزمات الناس مع المصارف، لامتناعها عن شراء العملة اللبنانية على سعر صيرفة، كما أصدر مصرف لبنان في تعميمه أخيرا من جهة. كما أنها شهدت تجدّد الأزمة على محطات الوقود، عندما امتنعت الأخيرة عن بيع المحروقات على التسعيرة الجديدة التي تراجعت بحوالي مائة ألف ليرة لبنانية، من جهة أخرى.
يشي هذا كله بأن الانهيار إلى مزيد من التجذّر في الأيام، ولربما السنوات المقبلة، في ظل انشغال الدول بأزمات شعوبها، وفي ظل الحرب الدائرة في أوروبا، وفي ظلّ الجنون المستشري في العالم والتضخّم المستمر في أسعار السلع وفي تكاليف المعيشة. وفوق هذه وتلك، في غياب أي تفكير، أو عمل سياسي، تقوم به الشرائح الاجتماعية اللبنانية المتضرّرة، بهدف انتزاع إمكانية القرار وبلورته في محاولة إنتاج نظام ودولة جديدين.