عن "غزّة الجديدة" إسرائيليّاً
تُكثر أبواق رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو من استخدام تعبير "غزّة الجديدة" لنعت الواقع الذين يتطلعون إلى أن يسود محصلةً لنتائج حرب الإبادة والتجويع والتدمير المستمرّة منذ أكثر من عام. وبمتابعة ما يُكتب بهذا الشأن، من جانب هذه الأبواق، يمكن استنتاج ما يلي فيما يتعلّق بما تفكر فيه الحكومة الإسرائيلية حيال غزّة: أولاً، ما يجري حاليّاً هو، بحسب أحد الأوصاف، خليط مكوّن من: نشاط عسكري إباديّ وتدميريّ لا يجري الكشف عن كامل تفاصيله، ودفع باتجاه تبنّي رؤية الاحتفاظ باحتلال عسكري، إلى جانب غياب أي مبادرة سياسية لحل ما يجري هناك. ثانياً، تطبيع فكرة الاستيطان في قطاع غزّة. ثالثاً، ترويج أن طريقة العمل الوحيدة التي يمكن أن تستجيب إلى حاجات إسرائيل في الجبهة مع القطاع يجب أن تتضمّن الاحتلال، والسيطرة على الأرض، وفرض حكم عسكري، والاقتحامات.
وبموجب سيناريوهات استشراف إسرائيلية عديدة، تتألف خطّة نتنياهو لما يوصف بـ"اليوم التالي" في غزّة من احتلال عسكري ومستوطنات. وبخصوص الاستيطان في غزّة، يتواتر الحديث حوله كثيراً في الفترة الراهنة، ويتنافس فيه اليمين المتطرّف بزعامة الوزيرين بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير ووزراء وأعضاء كنيست من الليكود ومن بعض أحزاب الحريديم، من الذين يتنافسون على الظهور بمظهر الأكثر تطرّفاً وتعصّباً وميلاً نحو النزعة المسيانية.
ولا بُدّ من أن نعيد إلى الأذهان أنه على خلفية الحرب وواقع أن الجيش الإسرائيلي تمكّن من احتلال أقسام من الجزء الشمالي من غزّة، تصاعدت، منذ الشهر الأول للحرب، الأصوات التي تطالب بالعودة إلى استيطان القطاع. وبناءً عليه، انتظمت في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 عدّة منظمات يمينية لإقامة ائتلافٍ يهدف إلى العودة إلى المستوطنات التي جرى تفكيكها ضمن خطة فك الارتباط مع غزّة 2005. وقام رئيس أحد مجالس المستوطنات الإقليمية في الضفة الغربيّة، يوسي داغان، بتجميع المنظمات وتركيز نشاطاتها، بحيث تشمل، في مراحل متأخّرة، نوى استيطانية، مع التركيز على الاستيطان في شمالي غزّة خطوة أولى. وعقد رؤساء المنظمّات الاستيطانية لقاءات بهذا الشأن، حيث استوحوا تشجيعاً من نجاح نشاطهم في إلغاء قانون الانفصال في شمال الضفة الغربية، والعودة إلى مستوطنة "حومش" التي تحقّقت بعد أعوام من المرافعات أمام المحاكم. ولا يقتصر الاستعداد لإقامة استيطان إسرائيلي في غزّة على المنظّمات اليمينية الاستيطانية وأذرعها في الحكومة، فالجيش الإسرائيلي أيضاً تقدّم بمشروعَين يشيران إلى الاستعداد لـ"بقاء" قد يكون طويلاً في القطاع: الأول، إنشاء منطقة أمنية محاذية للسياج الحدودي، عرضها كيلومتر، وتمتد على 16 % من أراضي القطاع؛ الثاني، إيجاد ممرّ للسيطرة يفصل بين شمال القطاع وجنوبه، ويسمح للجيش الإسرائيلي بالإشراف على التنقّل على "الطرقات الاستراتيجية". فكيف ستبدو صورة "غزّة الجديدة" في ظل هذه الهواجس الإسرائيلية، التي نرمي إلى تسليط الضوء عليها لا إلى الخوض في واقعية احتمالاتها.
ما يمكن قوله في النقطة الزمنية الراهنة: من ناحية أولى، أكّد الوزير سموتريتش، في سياق مؤتمر عُقد قبل نحو أسبوعين بالقرب من منطقة الحدود مع القطاع، بمبادرة من حركة "نحالاه" الاستيطانية، تحت عنوان "الاستعدادات العملية من أجل الاستيطان في غزّة"، أن "من الواضح أن مستوطناتٍ ستكون، في نهاية الأمر، في قطاع غزّة"! وثمّة من يؤكد أن تجربة الماضي تثبت أن مؤتمرات من هذا النوع تبدو وهمية وبعيدة المنال يمكن أن تتحوّل إلى واقع. ومثلما كتب مؤرّخ إسرائيلي: ما كان يُعتبر أمس مجنوناً ومحفوفاً بالمخاطر، بات اليوم شرعيّاً، وسيصبح غداً واقعيّاً. وحدث هذا أيضاً لأفكار إعادة الحكم العسكري في القطاع وإعادة احتلال حزام أمني في لبنان.
في المقابل، ثمة من يعتقد أن فكرة إعادة الاستيطان في غزّة عبثية، ولا تحظى سوى بتأييد اليمين المتطرّف. ولكن هؤلاء يؤكّدون كذلك أن مجرّد النقاش السياسي بشأن هذه الفكرة يُظهر مَن هم أصحاب القرار الفعلي في ظل الحُكم الإسرائيلي الحالي.