عن فرار سجناء سلفيين في نواكشوط
الهروب من السجن عملية معتادة، خصوصا لدى ذوي الأحكام العالية، كالإعدام أو المؤبد. ولا تشذّ عن هذا عملية هروب السجناء الناجحة في السجن المركزي في نواكشوط يوم 5 مارس/ آذار الجاري، غير أن الملفت في العملية طريقة تنفيذها وتوقيتها وخلفية أصحابها، فقد استطاع الهاربون إدخال مسدّس إلى داخل السجن، وهو السلاح الذي استخدموه للتخلص من أحد حرّاس السجن، والاستيلاء على سلاحه الذي مكّن من قتل حارسٍ ثان وجرح اثنين آخرين، قبل أن يلوذ الأربعة بالفرار بسيارتين، استولوا على الأولى بالقوة والتهديد تحت السلاح، واستقلوا الثانية التي أوصلتهم إلى السيارة الثالثة رباعية الدفع التي مكّنتهم من الخروج من العاصمة نواكشوط، رغم الاستنفار الأمني الشامل وقطع الإنترنت الجوال الذي تلا عملية السطو على السجن والهروب منه، ضمن خطة أمنية للقبض على السجناء.
استمرّت عملية الهروب والتتبّع ستة أيام، انتهت بتحديد مكان الهاربين والقضاء على ثلاثة منهم، واعتقال الرابع في ولاية آدرار (400 كلم شمال نواكشوط)، وذلك في عملية عسكرية استمرّت عدة ساعات. وكانت السيارة رباعية الدفع مجهّزة بكميات كبيرة من البنزين والذخيرة وباقي متطلبات الرحلة، من طعام وشراب وسلاح وغيره. أما التوقيت فهو مع اقتراب استغلال الغاز في الجانب الجنوبي الغربي من البلاد على الحدود المشتركة بين موريتانيا والسنغال، والمفترض أن يبدأ في الربع الأخير من السنة الجارية.
في الوقت ذاته، شهدت موريتانيا زيارات شخصيات مدنية وعسكرية مهمة من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، من فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإسبانيا وأميركا. وقد ناقشوا فرص الأنشطة الاستشارية والتدريبية وتعزيز القدرات التي يمكن القيام بها لدعم الهياكل والمؤسسات الوطنية للدفاع والأمن في موريتانيا. كما ساعد "الناتو" في إنشاء أربعة مراكز لإدارة الأزمات في البلاد، وساهم في تعزيز القدرات التشغيلية ووسائل إدارة الهجرة ورقابة تدفق المهاجرين، خصوصا من دول جنوب الصحراء. وموريتانيا تنتمي إلى إطار الشراكة "الحوار المتوسطي" للحلف منذ 1995. وفي السنوات الأخيرة، قدّم الحلف دعمًا لموريتانيا في بناء مستودعات آمنة للذخيرة، وتدمير الذخائر القديمة، وتدريب الكوادر العسكرية.
قدّم حلف الناتو دعمًا لموريتانيا في بناء مستودعات آمنة للذخيرة، وتدمير الذخائر القديمة، وتدريب الكوادر العسكرية
وشهدت العاصمة نواكشوط زيارة وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، وهي الأولى من نوعها، بعد حضور الشركة الأمنية الخاصة الروسية فاغنر في مالي المجاورة، بعد خروج القوات الفرنسية منها. وتمتد الحدود بين مالي مع موريتانيا على أكثر من ألفي كيلومتر تقع كلها في الصحراء. وقد شملت مواضيع زيارة الضيف الروسي جوانب التعاون في مجالي الأمن والطاقة.
أما الهاربون فهم أربعة من تنظيم القاعدة، سبق أن حكم على اثنين منهم بالإعدام، إثر إدانتهم بالضلوع في عمليات إرهابية سابقة. كما أنهم شاركوا في المراجعات التي جرت بإشراف الدولة بينهم وبين ثلّةٍ من العلماء، أدّت إلى توبة عدد منهم، بينما امتنع الأربعة عن تغيير مواقفهم المتطرّفة، إلى أن نفّذوا عملية الهروب المثيرة للجدل. وتدخل هذه المراجعات ضمن استراتيجية الدولة متعدّدة الأبعاد لمحاربة التطرّف وتجفيف منابعه، والتي أثبتت نجاحا معتبرا. حيث تم العفو عن محكومين حيث كان آخر العمليات الإرهابية التي شهدتها موريتانيا في 2011، خلافا لدول الجوار الأفريقي التي تغرق شيئا فشئيا في مستنقع الإرهاب والتطرف. ... ومن المثير للاستغراب أن نزلاء السجن الذين يضمّون 30 متطرفا على الأقل لم يخرجوا من السجن مع الفارّين.
هل توجد علاقة بين هذه العملية وسياقها الجيوستراتيجي؟ من شبه المؤكد أن هذا الغاز يشكل مصدرا محتملا يستخدمه الاتحاد الأوروبي، بحكم قربه، لتعويض جزء من الغاز الذي كان يستورده من روسيا قبل الحرب مع أوكرانيا وبشكل أقل ّبعدها. فهل هناك مصلحة لجهةٍ ما في زعزعة الاستقرار في دولةٍ تميزت من بين جيرانها بمقاربتها الأمنية متعدّدة الأبعاد، والتي مكّنتها من البقاء بمنأى عن العمليات الإرهابية منذ أكثر من عشر سنوات؟ تتحدّث جهاتٌ مأذونة عن اتفاقية متاركة بين فرع القاعدة في المنطقة والحكومة الموريتانية يشهد لها ويعضدها أكثر من دليل.
يثير هروب السجناء السؤال الكبير بشأن إجراءات الأمن المحيطة بالسجن المركزي: كيف غابت الكاميرات وأين البوابة الإلكترونية للسجن؟
وعلى الرغم من قلة الأخبار المحايدة في ظل استمرار التحقيق في ملابسات عملية فرار المساجين الأربعة، هناك أسئلة تبقى مطروحة برسم السلطات الموريتانية، كتفسير مرور الهاربين من خمس ولايات من الجنوب إلى الشمال من دون أن تجد السلطات الأمنية والعسكرية بتشكيلاتها المختلفة لهم أثرا، حتى أنهم أمضوا ما يزيد على 24 ساعة في منطقة واحدة، لا يزال بقاؤهم فيها كل هذه المدة الطويلة لغزا، حيث كان بإمكانهم أن يتجهوا نحو الجزائر أو مالي من دون صعوبة، حسب العارفين بشعاب المنطقة.
من كان وراء العملية تخطيطا وتنفيذا؟ هل تمت بتنسيق بين السجناء ومعارفهم وأهلهم خارج السجن؟ أم تمت بدعم من جهة أجنبية، وخصوصا القاعدة التي ينتمي إليها الهاربون؟ هل هناك محاولة لإخراج موريتانيا من حيادها في ملف الصحراء الغربية؟ أو جعلها تدفع ضريبة انحيازها للمعسكر الغربي؟ لماذا منع سكان نواكشوط من خدمة إنترنت الجوال بعد هذه الجريمة؟
يثير هروب السجناء السؤال الكبير بشأن إجراءات الأمن المحيطة بالسجن المركزي: كيف غابت الكاميرات وأين البوابة الإلكترونية للسجن؟ ولماذا يُحتفظ بسجناء خطيرين مثل هؤلاء في العاصمة وليسوا في أماكن بعيدة، كسجن ولاته في أقصى الشرق أو سجن صلاح الدين في أقصى الشمال؟ كيف استطاع السجناء إدخال السلاح إلى السجن؟ كيف استطاعوا الحصول على مائة شريحة جوال من دون أن يتركوا أثرا؟ أين رقابة نواكشوط عن طريق الطائرات من دون طيار والكاميرات المنتشرة في المدينة؟ كلها أسئلةٌ تبقى عالقة لغاية انتهاء التحقيق في الموضوع، وكشف كل ملابسات العملية. ولكنها، في الوقت ذاته، تشير إلى أماكن ضعف تجب معالجتها بالسرعة والفعالية المناسبتين، حتى لا تتكرّر مثل هذه الحادثة في دولة قليلة السكان وافرة الموارد الطبيعية.