عن قاعدة عسكرية روسية في السودان
تشهد العلاقات بين السودان وروسيا تطوّرات ملحوظة، مدفوعة بمصالح مشتركة، وتعاون تاريخي، وتتصف بزيادة التعاون في مختلف المجالات، خصوصا العسكرية والأمنية، وعلى وقع حربين في أوكرانيا والسودان، مع تحرّكات متبادلة ومتسارعة لتعزيز العلاقات.
وقد بدأ التعاون بين البلدين في زمن الاتحاد السوفييتي، ثم استجدّت تطورات عديدة في السودان، تدهورت بعدها العلاقات، غير أننا اليوم أمام جولة جديدة من هذا التعاون، ومن ذلك ما ذكرته مصادر عديدة عن اتفاق الخرطوم وموسكو على مسودة اتفاق يمنح الأخيرة "مركز دعم فني ولوجيستي عسكري" على ساحل البحر الأحمر شرقي السودان. في تطور جاء في أعقاب زيارة نائب وزير الخارجية ومبعوث الرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط وأفريقيا، ميخائيل بوغدانوف، بورتسودان في إبريل/ نيسان الماضي، برفقة وفد من وزارتي الخارجية والدفاع، وتلتها قبل أيام، زيارة وفد سوداني رفيع إلى روسيا، للمشاركة في منتدى سان بطرسبرغ من 5 إلى 8 يونيو/ حزيران الحالي. وتعيد هذه الخطوات إلى واجهة الأحداث التفاهمات السابقة بين البلدين بشأن إقامة قاعدة روسية على البحر الأحمر، كان قد جرى تجميدها بسبب رفض ومخاوف وعقبات داخلية، وضغوط دولية وتحفظات إقليمية.
ووفق مصادر سودانية، نصت مسودة الاتفاق على دعم الجيش السوداني ومنحه عتاداً حربياً وفق بروتوكول منفصل، وعلى ألا يتعدى الوجود الروسي بنقطة الدعم اللوجستي 300 فرد فقط، وألا يتعدى عدد السفن أربع قطع، والتشديد على أن الاتفاق غير موجّه ضد أي دولة، ويسري فور التوقيع عليه.
تكمن أهمية القاعدة العسكرية الروسية في السودان في موقعها الاستراتيجي على ساحل البحر الأحمر، ما يمنح موسكو نقطة انطلاق بحرية هامة
ويمكن القول إن المحادثات الجارية بشأن التعاون العسكري مع روسيا جزء من الصراع على النفوذ في منطقة البحر الأحمر، وتعزيز الوجود الروسي في وسط أفريقيا وغربها. وبالنسبة للولايات المتحدة، الاتفاق مع روسيا بشأن مركز لوجستي يزيد من عزلة السودان، حيث تنظر، ومعها والدول الغربية، بقلق إلى تنامي العلاقات بين السودان وروسيا، خوفاً من زيادة النفوذ الروسي في أفريقيا وتقويض مصالحها في المنطقة.
يُذكر أن الحوار بشأن توريد الأسلحة الروسية إلى السودان مقابل فتح قاعدة في البحر الأحمر مستمرّ منذ فترة طويلة، وفي السابق، كان أبطأ بسبب الضغط القوي من الولايات المتحدة. وتحاول شركات النفط الروسية أيضا الحصول على موطئ قدم في قطاع النفط السوداني، ففي 2018، أبرمت اتفاقاً مع الحكومة لبناء مصفاة نفط في بورتسودان، ولكن بعد مرور عام، جرت إطاحة الرئيس عمر البشير، وسادت الفوضى في البلاد، ثم وضعت جائحة كورونا حدّا للمشروع.
ويظهر موضوع آخر بشكل دوري في وسائل الإعلام، وهو بناء محطّة للطاقة النووية في السودان. وبغض النظر عن مدى حاجة البلاد إلى الكهرباء، فقد جرى وضع هذا الموضوع على الرفّ للأسباب نفسها التي تمنع تعدين الذهب وتكرير النفط ومشاريع أخرى، بسبب الفوضى وعدم القدرة الفعلية على السيطرة على البلاد.
وعلى الرغم مما تفيد به تقارير في وسائل الإعلام بأن شركة فاغنر العسكرية الروسية الخاصة تقدّم المساعدة لقوة الدعم السريع السودانية بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) التي تخوض حربا مع الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان، إلا أن الحكومة الروسية لا تتخذ موقفًا عدائيًا تجاه الجيش، بل تحافظ على علاقات رسمية مع السودان. وتبدو الصورة معقدة وضبابية بالنسبة للعلاقة التي تربط بين روسيا والجيش، وتربطها في الوقت نفسه بقوات الدعم السريع، فالواضح محاولة موسكو اللعب على تناقضات المشهد الذي أفرزته الحرب الحالية في السودان، واستمرّت علاقاتها مع الطرفين العدوين (الجيش وقوات الدعم السريع).
بالنسبة للولايات المتحدة، الاتفاق مع روسيا بشأن مركز لوجستي يزيد من عزلة السودان
وتكمن أهمية هذه القاعدة العسكرية أو المركز اللوجستي، بالنسبة لروسيا في موقعها الاستراتيجي على ساحل البحر الأحمر، ما يمنح موسكو نقطة انطلاق بحرية هامة في منطقة حيوية للتجارة العالمية، ونقطة عبور رئيسية لحركة الملاحة البحرية، وتُساهم في تعزيز النفوذ الروسي في أفريقيا، وتوسيع نطاق وجودها العسكري في القارّة، ما قد يمنحها مزايا جيوسياسية واقتصادية، كما يمكن استخدام القاعدة لدعم العمليات العسكرية الروسية في المنطقة، مثل مكافحة القرصنة أو التدخّل في النزاعات الإقليمية، وقد تُتيح فرصًا للتعاون العسكري مع دول أفريقية أخرى، وتعزيز مبيعات الأسلحة الروسية.
وتتوقع الخرطوم الحصول على دعم عسكري من روسيا، بما في ذلك الأسلحة والتدريب، ما قد يعزّز قدراتها الدفاعية ويُساعدها في مكافحة التمرّدات الداخلية والجماعات المسلحة، وتأمل السودان في الحصول على مساعدة اقتصادية من روسيا، مثل الاستثمارات في البنية التحتية أو مشاريع الطاقة، وترى السودان في القاعدة فرصة لتعزيز علاقاتها مع روسيا، وهي دولة نووية ذات نفوذ متزايد في العالم.
وتخشى أطرافٌ سودانية أن تُشكّل القاعدة العسكرية تهديدًا لسيادة بلادهم، وأن تُصبح روسيا تُهيمن على قراراتها، وقد تُؤدي إلى توترات في علاقات السودان مع دول إقليمية أخرى. وبشكل عام، تُعد القاعدة العسكرية الروسية في السودان موضوعاً معقداً على كل من موسكو والخرطوم.
ويبقى القول، المؤكّد أنه، في إطار المناقشة بين البلدين بشأن هذه القاعدة العسكرية، جارٍ تقييم الفوائد والمخاطر والمخاوف، بعناية قبل المضي في تنفيذ الاتفاق.