عن قصة الجمهورية في اليمن
لم تكن مسألة الجمهورية، نظاماً سياسياً، مطروحة للنقاش على طاولة الثوار وجدول أعمال الأحرار اليمنيين، طوال مراحل النضال الوطني، منذ تبلور فكرة الحركة الوطنية اليمنية وولادتها، وهو ما ظهر جلياً إبّان ثورتي 1948 و1955، حيث جرى الأمر بمحاولة تخريج شكل للنظام الإمامي القائم حينها، بمحاولة تكريس النظام نفسه، مع إصلاحات طفيفة عليه. فقد جرى إبّان ثورة فبراير 1948 الحديث عن دسترة الإمامة، أي جعلها إمامة دستورية، ما يعني الإبقاء على شكل نظام الإمامة نفسه، مع إجراء تعديلات طفيفة عليه، من قبيل إضافة دستور للإمامة، ينظم صلاحياتها واختصاصاتها. وكانت محاولة فاشلة منذ ولادتها الأولى، لأسباب عدة، في مقدمتها تخوّف الناس من التغيير واستبدال إمام بإمام آخر، وهو ما لا يشكل فارقاً لديهم، حيث سيُستبدَل الإمام يحيي حميد الدين بالإمام عبد الله بن علي الوزير، أي ستستمرّ دوامة الصراع الهاشمي، وتدوير أزماته واستبداد فكرته المتخلفة.
جرى إبّان ثورة فبراير 1948 الحديث عن دسترة الإمامة، أي جعلها إمامة دستورية، ما يعني الإبقاء على شكل نظام الإمامة نفسه، مع إجراء تعديلات طفيفة عليه
وتكرّر هذا السيناريو نفسه تقريباً، إبّان ثورة 1955 التي قام بها المقدم الشهيد أحمد يحيي الثلايا ومحمد صالح القباطي، مع مجموعة من رفاقهما، حينما حاولوا الضغط على الإمام أحمد في تعز بالاستقالة، وفَسح المجال لأخيه سيف الإسلام عبد الله أن يتولى الإمامة بدلاً منه، ففشلت الحركة منذ لحظتها الأولى، لأنها تكرّر الأخطاء نفسها التي وقع فيها ثوار 1948، وتعيد التجربة نفسها، لتحصد النتائج نفسها المعروفة مسبقاً. وفي تلك الأثناء، كان ثمّة من يفكر في مثل هذا المصير المحتوم للمحاولتين الثوريتين، وكيف يمكن تجنّب السير في هذا المسار المرّ والصعب. وهو ما لاحظه جيداً المفكر السياسي الشاب حينها، محمد أحمد نعمان (النعمان الابن)، الشاب المتقد حينها ذكاءً وحنكة، رأى أن من العبث الاستمرار في المسار نفسه، للحصول على النتائج نفسها، وهو تبديد الجهود الثورية من دون طائل، سوى حصد الخيبات والهزائم وتقديم عشرات القرابين لمقصلة الإمامة من خيرة رجال اليمن وأحراره.
وفي هذا السياق، بدأ النعمان محمد التفكير باكراً في هذا المسار، حيث عمل على التواصل بسجناء ثوار 1948 في سجن القاهرة في حجة في أغسطس/ آب 1953، وطرح عليهم أسئلة بشأن مستقبل النضال والقضية الوطنية، وطرحها على من بقوا أحياءً منهم، ولم يقطع سيف الإمام رقابهم، وكان دافعه حينها إبقاء نافذة مفتوحة للأمل والعمل معاً، في غياهب سجن الإمامة، حتى لا يقتل اليأس الأمل في نفوسهم، ويدفعهم إلى التفكير في الآليات والبدائل النضالية لاستمرار مسيرة الكفاح من أجل التغيير والتحرر من الاستبداد، فصاغ النعمان جملة من الأسئلة الجريئة، والمتعلقة بالبحث عن إجابات حقيقية عن سبب فشل الثوار وإخفاقهم في محاولتهم تلك، وكيف يمكن تجنب الوقوع في نوبةٍ من اليأس والإحباط، وحثّ الخطى مرة أخرى لتكرار المحاولة، ولكن هذه المرة بعيداً عن تكرار المقدّمات نفسها لحصد النتائج نفسها، وإنما بابتكار وسائل وطرق وأفكار جديدة، وخريطة طريق للعمل والنضال الوطني المستبصر.
تمكّن النعمان من استنفار الثوار حينها، وهم والده أحمد محمد نعمان، والقاضي عبد الرحمن الأرياني، والقاضي عبد السلام صبرة، وأحمد المعلمي، ومحمد أحمد السياغي، ومحمد أحمد صبرة، وعبد الله السلال، ومحمد عبد الله الفسيل، وغيرهم، وهو ما تجلى، بعد ذلك، بالإجابات التي أخرجها في كتابه "ما وراء الأسوار"، الذي اشتمل على كل الإجابات التي ينبغي أن تكون خريطة أمل وعمل لاستئناف النضال برؤية وطنية جديدة ورشيدة. وصدر الكتاب في 1963 عن دار الكاتب العربي في بيروت، بعد قيام الثورة. وكانت إجابة محمد أحمد السياغي فيه تنسجم مع ما يطرحه النعمان الابن، أن على الثوار أن يبحثوا عن بديل لشكل النظام الإمامي، وأن أي محاولة لإصلاح هذه النظام فاشلة مسبقاً، لأنها محاولة لإصلاح ما لا يمكن إصلاحه مطلقاً. ففي إجابته عن سؤال عن الأنسب لليمن من نظام الحكم، للخروج من مأزقه، قال السياغي إن خير نوع من الحكم في الحال الحاضر هو الحكم الجمهوري الذي يباشر الشعب الحكم فيه بنفسه، ولكن العقبات بالنسبة إلى ما نعرف كثيرة، وكأداء، فلم تبلغ أمتنا الحدّ الذي تستسيغ معه الحكم الجمهوري، ولا الحدّ الذي تهضم فيه النظام الجمهوري طفرة. وأضاف السياغي، كما جاء في كتاب "ما وراء الأسوار"، أن سنّة التطور تقتضي التدرّج من نظام إلى نظام، حتى نستقر على نظام ثابت ومستقر، فأولاً الحكم الدستوري المبني على الشورى، برئاسة شخصية هاشمية، ولو هزيلة، ليشترك الشعب في حكم نفسه، فيقضي في أثناء هذا الحكم على التقاليد البالية، وعلى الجمود والخمول، ويعرف اليمني فيه قيمة نفسه.
بعد ست سنوات من تبلور الدعوة إلى الجمهورية، وتحولها إلى مطلب لحركة الأحرار، تفجرت ثورة 26 سبتمبر، في 1962
ومن خلال هذا النقاش الثنائي بين النعمان والسياغي، بات واضحاً القول إن محمد نعمان كان السباق في طرح الفكرة الجمهورية وبقوة، وخصوصاً بعد فشل حركة 1955، وهو ما دفعه إلى كتابة كتاب "الطريق إلى الجمهورية"، الذي لم يجد طريقه للنور بعد، وفيه طرح خلاصة رؤيته للجمهورية المنشودة. والحقيقة أن محمد نعمان، كما يذكر علي محمد زيد في كتابه "الثقافة الجمهورية في اليمن"، كان مجتهداً يحاول التجديد في فكر الأحرار، حتى لو اختلف مع قيادة حركة الأحرار المعارضة، ممثلة بالدرجة الأولى بوالده ومحمد الزبيري، وليس أدل على ذلك أنه وصل، في سنة 1956، إلى قناعة بأن طريقة حركة الأحرار المعارضة، التي تستند إلى ضرب إمام طاغية بإمام آخر على أن يلتزم دستوراً يحدّد المسؤوليات والعلاقات بالمواطنين، لا يمكن أن تستمر، ولا أن تنجح. ولذلك قال النعمان: نعم، أريد الجمهورية في بلادي. أريد أن ينتهي التوريث للبشر في بلادي. أريد أن يشعر الحاكم، حقيقة لا مجازاً، بأنه يخدم مواطنيه، وبأنه موظف لديهم لفترة محدودة، يعمل أجيراً لديهم في إدارة شؤونهم العامة، لا إلهاً متجبّراً، يهب الحياة لمن يشاء ويطعم سيف (الوشاح) من يريد، أريد تغيير نُظم لا تغيير أشخاص.
وقد سبّب هذا التوجه الواضح والصريح لمحمد النعمان، وموقفه تجاه فكرة الإمامة من أساسها، واستحالة إصلاحها من داخلها، سبب له متاعب كثيرة، مع أعضاء في الاتحاد اليمني في عدن، كانوا يهدّدون بالانسحاب من الاتحاد، متهمين محمد النعمان بالتطرّف والجنون، فردّ عليهم: ألا فاسمعوا، أيها المتعبون، ممن يرون أن معركة الحياة والموت بالنسبة إلى الشعب العربي في اليمن محصورة في حياة الإمام الموجود، واختيار الشخص الذي يخلفه. يا من عجزوا اليوم عن احتمال مشقات الكفاح والنضال، إنكم على أبواب القبور، وإن كنتم ترتبون لأنفسكم مراسيم الجنازة، فتذكّروا أنكم أنتم وحدكم من تسيرون بخطوات واسعة نحو القبور، فلا تحفروا قبراً لكل أبناء الشعب اليمني.
اليمنيون أمام معركة وجودية، تقرّر مصير جمهوريتهم ودولتهم وسيادتهم واستقلالهم تحت راية جمهورية اليمن الاتحادية الفيدرالية
صحيحٌ أن هذه الأفكار قد أثارت ردود فعل وتشنجات كثيرة بين صفوف الثوار أنفسهم في عدن، ما اضطر إلى تدخل القيادة العليا للاتحاد، ممثلة بأحمد محمد نعمان ومحمد الزبيري، التي عملت على تسفير محمد نعمان من عدن إلى القاهرة، لأنها رأت أن مثل هذه الأفكار سابقة لأوانها، وأنها ستؤدي إلى تكفيك الاتحاد من الداخل. وعلى الرغم من ذلك، لاقت هذه الأفكار الواضحة والصريحة، تجاه تبنّي الفكرة الجمهورية بديلاً للنظام الإمامي الحاكم، بعض القبول في أوساط الشباب المناضلين حينها، كمحسن العيني الذي جاء في كتابه "معارك ومؤامرات ضد قضية اليمن" الصادر في 1957. وفي معرض ردّه على سؤال ليمنيين جنوبيين أنه لا يمكن الوحدة مع مملكة الظلام، أي مملكة الإمامة في شمال اليمن، ها هو يرد عليهم بالقول: "هيا بنا، يا رجال، نوحد النضال في سبيل جمهوريةٍ شعبيةٍ يتساوى في ظلها المواطنون، فلا تابع ولا متبوع ولا سيد ولا مسود، هيا بنا نؤسّس الجمهورية، جمهورية اليمن". ويذكر علي محمد عبده، صاحب كتاب "لمحات من تاريخ حركة الأحرار"، أنه عند وصول نسخ من كتاب محسن العيني "معارك ومؤامرات ضد قضية اليمن" إلى عدن، بعد صدوره سنة 1957، طلب منه محمد نعمان إعداد عرض للكتاب بعنوان، أول دعوة إلى الجمهورية في اليمن، وقد نشر العرض في صحيفة الفكر التي كانت تصدر في عدن، ونشر صالح الدحان مقالاً في الصفحة الأخيرة من صحيفة اليقظة عن الدعوة إلى الجمهورية.
وبعد ست سنوات من تبلور الدعوة، وتحولها إلى مطلب لحركة الأحرار، تفجرت ثورة 26 من سبتمبر، في 1962، وأُعلن قيام جمهورية "26 سبتمبر" ميلاداً لأول نظام جمهوري في تاريخ اليمن، هذا النموذج الذي تكرّر بعد ذلك في جنوب اليمن، بإعلان قيام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، التي كانت هي الأخرى واحدة من متطلبات حركة التحرّر الوطني التي شهدها الوطن العربي تحت مظلة حركة القوميين العرب. وليتوج هذا كله بإعلان توحيد الجمهوريتين، العربية شمالاً، والديمقراطية جنوباً، في 22 من مايو/ أيار 1990، تحت مسمّى الجمهورية اليمنية التي يتهدّدها اليوم شبح عودة الإمامة شمالاً، والانفصال المموَّل إماراتياً سعودياً جنوباً، ما يضع اليمنيين جميعاً أمام معركة وجودية، تقرّر مصير جمهوريتهم ودولتهم وسيادتهم واستقلالهم تحت راية جمهورية اليمن الاتحادية الفيدرالية، المنتظَر خروجها من بين ركام كل هذه الحروب والمؤامرات المكشوفة.