عن مأزق استراتيجي لحزب الله

21 سبتمبر 2024

تشييع شهداء سقطوا بتفجير أجهزة اتصالات في الضاحية الجنوبية لبيروت (18/9/2024 فرانس برس)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

رفع الهجوم الكبير، الذي استهدف شبكة اتصالات حزب الله يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين، ولم تتبنَّه إسرائيل أو تنف مسؤوليتها عنه، من مخاطر انزلاق حرب الاستنزاف الدائرة بين الطرفَين منذ ما يقرب من عام إلى حربٍ واسعة. مع ذلك، الافتراض الأكثر واقعيةً، رغم التصعيد الكبير في الصراع، أنّ خيار الحرب الواسعة لا يزال الأقلّ تفضيلاً في استراتيجيات الطرفَين. ولا يرجع ذلك إلى حقيقة أنّ التكاليف المُرتفعة لمثل هذه الحرب لا تزال تعمل عنصراً حاسماً في تشكيل هذه الاستراتيجيات فحسب، بل أيضاً إلى حقيقة أنّ حرب الاستنزاف لم تعد مُتكافئةً من حيث التكاليف المترتّبة على حزب الله وإسرائيل، لأنّ الأخيرة نجحت (إلى حدّ بعيد) في فرض قواعد اشتباك تُلحق أضراراً كبيرةً بالحزب، وتُقوّض خياراته الأقلّ تكلفةً للحدّ من حالة الاستنزاف التي يواجهها، ولإبعاد سيناريو الحرب الواسعة.

أقرّ أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، في خطابه، في 19 سبتمبر/ أيلول الجاري، بحجم الضربة الكبيرة التي مُنيَ بها الحزب بعد الهجوم على شبكة اتّصالاته، لكنّه أظهر بوضوح أنّ أولويته لا تزال تفضيل حرب الاستنزاف رغم تكاليفها المتزايدة على استدعاء الحرب الشاملة. غير أنّ هذا التفضيل، الذي ينطلق من منظور تحمّل الواقع السيئ لتجنّب الأكثر سوءاً، يعكس في الواقع المأزق الاستراتيجي الذي يواجهه في الحرب. لقد صمّم الحزب انخراطه في الحرب منذ الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، لمساندة المقاومة الفلسطينية في غزة، لكنّه يجد نفسه بعد عام تقريباً من هذا الانخراط عالقاً في المنتصف. فلا هو قادرٌ على الحدّ من اندفاعة إسرائيل في تصعيد حرب الاستنزاف ضدّه، لأن محاولة رفع التكاليف لردعها عن التصعيد قد تُؤدّي في النهاية إلى استدعاء الحرب الواسعة، ولا هو قادر على التراجع خطوةً إلى الخلف، لأنّ مثل هذا التراجع سيُعزّز ضعفه، وستكون له عواقبُ كبيرةٌ عليه في المستقبل المنظور والبعيد.

النظر إلى الهجوم على شبكة الاتصالات في سياق العمليات الأمنية والاستخباراتية الكبيرة، التي نفّذتها إسرائيل في لبنان وسورية وإيران منذ اندلاع الحرب، يُعطي صورةً أكثر وضوحاً عن الآثار العميقة للحرب على توازن الردع بين إسرائيل، وحزب الله وإيران. وحتّى في وقت رفع فيه انخراط حزب الله في الصراع من تكاليف حرب غزّة على إسرائيل، وأوجد مُعضلةً أمنيةً استراتيجية لها في جبهتها الشمالية، فإنّ التكاليف المُترتّبة على هذا الانخراط لم تعد تقتصر على حرب استنزاف لم تعد مُتكافئةً من حيث التكاليف المترتّبة على حزب الله وإسرائيل، لأنّ الأخيرة نجحت (إلى حدّ بعيد) في فرض قواعد اشتباك تُلحق أضراراً كبيرةً بالحزب.

حرب الاستنزاف لم تعد مُتكافئةً من حيث التكاليف المترتّبة على حزب الله وإسرائيل

منذ تعافي الحزب من الحرب الواسعة التي خاضها مع إسرائيل في عام 2006، صمّم ترسانته العسكرية الكبيرة، التي طوّرها منذ تلك الفترة قوّةَ ردعٍ تمنع إسرائيل من التفكير في شنّ حرب أخرى واسعة عليه في المستقبل. لكنّ هذا التصميم أصيب بتصدّع كبير، لأنّه لم يردع إسرائيل عن خرق قواعد الاشتباك في إدارة حرب الاستنزاف، وقد ينهار كلّياً إذا ما نفّذت إسرائيل تهديدها بشن حرب شاملة على لبنان. من المؤكّد أنّ حرباً شاملةً ستجلب تكاليفَ مرتفعةً على الطرفَين لا يُمكن تصوّرها، لكنّ الحزب يستشعر بشكل متزايد مخاطرَ وجوديةً عليه. ويُعطي الهجوم على شبكة اتصالات الحزب، وقبله الهجوم الاستباقي الإسرائيلي قبل ساعات قليلة فقط من ردّ الحزب العسكري الانتقامي على اغتيال قائده الكبير فؤاد شُكر، صورةً عن الكيفية التي يُمكن أن يُؤدّي فيها الخرق الاستخباراتي الإسرائيلي الكبير لمنظومة الأمن والاتصالات الخاصّة به إلى شلّ قدرته على إدارة آمنة لحرب شاملة فترة طويلة. لا يزال الحزب يُراهن على ترسانته العسكرية الثقيلة لإلحاق ضرر كبير بإسرائيل في حرب واسعة، لكنّ الخرق الاستخباراتي الإسرائيلي العميق له يُثير شكوكاً بشّأن قدرته في خوض حرب واسعة.

يتمثل المخرج المثالي لحزب الله من حرب الاستنزاف الراهنة، ومن مواجهة مخاطر الحرب الشاملة، في إبرام تسوية مع إسرائيل تُعيد حالة الهدوء إلى الجبهة اللبنانية الجنوبية. لكنّ مثل هذه التسوية لا تبدو مُمكنةً في المستقبل المنظور، وحتّى لو كانت مُمكنةً، فإنّ مأزق الخيارات الذي يواجهه الحزب لا يُساعده في فرض تسوية متوازنة تضمن استعادة توازن الردع، ما كان سائداً قبل السابع من أكتوبر (2023). وعندما قرّر حزب الله الانخراط في حرب الإسناد، فإنّه كان يُدرك مسبقاً أنّ هذا الانخراط يُشكّل حاجةً له لتعزيز الردع بما يمنع أن يكون هو الهدف التالي إسرائيلياً بعد حركة حماس. إنّ الحسابات الخاطئة، التي لم تتوقّع أن تستمرّ حرب الاستنزاف هذه الفترة كلّها، وتصدّع الصورة التي رسمها الحزب لنفسه قوّةً قادرةً على مقارعة إسرائيل في مختلف مجالات الصراع، أوجدا وضعاً جديداً سيكون له آثار كبيرة عليه في المستقبل.