عن مستقبل الحياة واتجاهات البشرية في 2021
كانت المشاركة في المؤتمر السنوي لهيئة دراسات المستقبل في العالم، قبل أيّام، ثرية بالأفكار التي دارت بواسطة دائرة تلفازية مغلقة، وعالج المشاركون موضوع مستقبل الحياة واتجاهات العالم 2021. تكلّمتُ عن مصير الشرق الأوسط وهو يجابه تحدّيات صعبة جداً. وإذ واجهت البشرية في 2020 تحدّيات عارمة وتغييرات كبيرة واضطرابات متحرّكة، جعلت الإنسان يفكّر في متغيرات سنة جديدة قادمة، ما الذي سيحلّ في كلّ المجتمعات؟ ما خصوصيات تبلور الاتجاهات التي ستشكل مشهد العمليات لعام 2021 وما بعده؟ وكيف سيواجه مسألة التهجين وكيفية توظيف تكنولوجيا المعلومات؟ وفي حين يأمل العالم كله أن تهدأ جائحة كوفيد 19 المؤذية بحلول نهاية العام الجديد، فقد أدت تداعياتها عام 2020 إلى تسريع وتيرة التغيرات، والتي سيكون لها تأثيرها العميق على كيفية عيشنا وعملنا وتعلمنا وتفكيرنا وسفرياتنا وأساليب حياتنا.. هنا نظرة على بعض المتغيرات التي أسميت التهجينات.
يذكّرنا "التهجين" في كل مكان من العالم بالاقتباس المنسوب إلى صمويل كليمنس (المعروف أيضًا باسم مارك توين) بأنّ "التاريخ لا يكرّر نفسه، ولكنه غالبًا ما يكون له قافية". إذ نرى مثل هذه المشاعر في عمليات الاتجاه الأول للتهجين هنا وهناك، وفي كل مكان حول كيفية عيشنا وعملنا وتفكيرنا وحركتنا المقولبة، والتي سيعتاد الإنسان عليها.
أولاً، قبل خمسة وعشرين عامًا، عندما تم إطلاق التجارة الإلكترونية، كانت تعمل في صومعة منفصلة عن تجارة التجزئة، وكان الإنسان يشعر بثقلها وكأنها قذائف الهاون، ولكنها ستكون فعالة أكثر في 2021. وإذا كان سابقاً من الصعوبة إرجاعها إلى متاجرها، فإن جملة هائلة من التسهيلات ستبدّل ذهنية الإنسان ليرى فيها وكأنه "يرفع الأثقال بوزن الريشة"! لأنّ العملاء سوف لا يكلّفهم الأمر أية اختلاطات مع الآخرين، بل سيكونون أكثر دربةً في إصداراتٍ متصلةٍ واتصالاتٍ واقعيةٍ لا افتراضية بالإنترنت، وسيوفر ذلك على الشركات التعامل المباشر مع الناس، وسيقلّ تجار التجزئة وحتى تجار الجملة، بفعل إنشاء عمليات الفصل الاصطناعية هذه.
تبدو التجارة في العالم كأنها تولد من جديد وستغدو متعدّدة القنوات
ثانيا: إطلاق العنان للإنتاجية للعقد المقبل، أي أن 2021 ستبدأ حياة جديدة لعقد من السنين، خصوصا، كما توضح منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) في كندا والولايات المتحدة الأميركية بتفعيل برنامج مدفوع، ويشغله صانعو التغيير الشباب الذين سيشكلّون عالمًا أفضل بذكائهم وقدراتهم المتفوّقة على جيل سبقهم.. وتدريجيًا، ستتوالد قوى من الشباب، تتعامل وكأنها تجار التجزئة لخدمة العملاء، أينما ومتى أرادوا في المدن وضواحيها عبر العالم، بمعنى أن التجارة في العالم كأنها تولد من جديد وستغدو متعدّدة القنوات. ويمكن للعملاء اليوم رؤية منتج وتجربته في متجر فعلي، وسيكون العرض على الشاشة، وقراءة مراجعات العملاء وإجراء مقارنة التسوق عبر الإنترنت، وسيخفت الشراء من المتجر ليكون متفوّقاً عبر الإنترنت، وتسليم مشترياتهم أو استلامها في مكان مادي. وستنشط حركة الاتصالات والمواصلات معاً، جواً وبراً وبحراً. وستشعر الأجيال السابقة أنّ التجارة غدت تجربة هجينة حقًا، ولكن لا مناص من كلمة شاعت قولا وفعلا "الديليفري".
ثالثا: نشهد تهجينًا في ميادين أخرى، ولا تعرف تداعياتها المستقبلية بعد، وخصوصاً ما يتعلق بالعمل والمدرسة وأوقات الفراغ، ففي أثناء اجتياح الوباء مثلا، كان في وسع الذين لهم ميادين العمل، بعد انحسار المكان والزمان معاً، "العمل" عن بُعد، وكان لابدّ أن يفعّلوا ذلك، وقد اكتشفت الشركات أن هذا كان ناجحًا. من خلال "تويتر" و"مايكروسوفت" وغيرهما، لقد نجحت التجارب بتفعيل دور القوى العاملة لديهم من أن تكون بعيدة بنسبة 100٪ عن الوباء.
سيعمل التعلم الهجين على مزج التعليمات المتزامنة وغير المتزامنة لإنشاء تجارب تعليمية ستكون أفضل من التعلم الشخصي الخالص
أكبر عشرة اتجاهات للأعمال لعام 2021، والتي يتوجب استعداد الجميع لها، تتمثّل بالاستكشاف والتعرَّف على أساليب التفكير الجديدة، والتوغّل خلف كواليس أي عرض، ربما كانت استوديوهات الكارتون قد عرضته مخياليا ثقافيا للمتعة في السنوات السابقة، ولكنه اليوم غدا حقائق لها مصداقيتها تمشي على الأرض. ويعلق أحدهم قائلاً: ربما كان تحقيقه سيتأخر من دون هذه الجائحة، ولكنها عجّلت في الوتيرة التي ستجعل الإنسان يدور معها سريعاً، ولا خيار أمامه إلّا ذلك! التطلّع إلى المستقبل لا يعني إبقاء القديم على قدمهِ، ولا اللوذ بالصمت والخوف، بل ينبغي أن تُؤدّى الأعمال ليس في المكتب فقط، بل حتى من المنزل أحيانًا أخرى. وقد يتغيّر ذلك من يوم إلى آخر أو حتى في أثناء النهار.
وعليه، هناك في المؤسسات من لم يألف العمل فيها على نمط الحياة المنتجة الجديدة، ثم أصبح يزاوله، بفضل تكنولوجيا البث المباشر لبرامج التعاون. وقد لاحظت شركة عالمية أن العمل الهجين سيمتد، على حد سواء، شخصيًا بالكامل والعمل عن بُعد باعتباره الأجدى من الخيارات. ولم يعد الأمر يقتصر على حركة العمل والمال وأعمال الشركات واجتماعات الكوادر والعاملين والموظفين، وإنما أصبح يلحق بقاعات التدريس والاجتماعات العلمية والبرامج الثقافية، وحتى المحاضرات والامتحانات.. إلخ. وستشهد المنظمات "تفريغًا للمحاور"، مع زيادة المكاتب الفرعية والمواقع البعيدة والاتصالات مع العالم. وسيعمل الأشخاص حيث يمكنهم أن يكونوا أكثر إنتاجيةً في المواقع المركزية لعقد اجتماعاتٍ أكبر مع الزملاء أو العملاء أو الأساتذة أو المدراء، وفي المكاتب الفرعية للتعاون، وعن بُعد للمشاريع المستقلة. وسيؤدّي هذا التحوّل الخطير في أنماط العمل إلى تغيير مستقبل مكاتب فخمة في الشركات والمنظمات والجامعات والكليات، وصولا إلى الكنائس ودور العبادات. .. في محادثة أجراها أخيرا أحد زملاء الهيئة مع شركة Fortune 500 بشأن حرمها الجامعي الجديد الذي تبلغ تكلفته مليار دولار، اعترف القادة بأنه إذا تم بناء الهيكل بعد عامين، لكان التصميم مختلفًا تمامًا، وربما كان سيبدو مركزا أصغر وأكثر ذكاءً وقدرة في قوة اتصالاته مع الأقمار الصناعية.
أدت تداعيات الجائحة إلى تسريع وتيرة التغيرات، والتي سيكون لها تأثيرها العميق على كيفية عيشنا وعملنا وتعلمنا وتفكيرنا وسفرياتنا وأساليب حياتنا
سيتعزّز هذا التهجين نفسه أيضاً في التعليم العالي والبحث العلمي، وحتى في المكتبات ودور الأرشيف، وسوف تقوم الجامعات بالتمييز بشكل ثنائي بين التعلم عن بعد عبر الإنترنت والتعلم الشخصي. وقد تمّ التعامل مع التعلّم عبر الإنترنت على أنه صومعة بليدة، وغالبًا ما يُنظر إليه شكلا أدنى من التعلّم وأرخص تكلفة، ولكن التمييز سوف يتلاشى مع تطوير أساليب التعلّم الهجين التي تجمع بين "غرف" الحضور شخصيًا، وستختصر المسافات المكانية والزمنية من خلال مواقع "Zoomies" التي ستعجّ بالذين يحضرون عن بُعد. وقد لا يتابع بعض الطلبة جلسات الفصل، ولكن ستحتفظ ذاكرة Zoomie لهم بكل الأنشطة، وسيعتاد الإنسان عليها مع مرور الأيام من سنة 2021.
هكذا، سيعمل التعلم الهجين أيضًا على مزج التعليمات المتزامنة وغير المتزامنة لإنشاء تجارب تعليمية ستكون أفضل من التعلم الشخصي الخالص. وفي التعليم التنفيذي، ستفسح الحرم الجامعية المجال، بشكل تدريجي، لنموذج "المحور والتحدّث" مع المعلّم أو الأستاذ أو المدرّب والمعيد الذي يقوم بالتدريس أو التدريب والتمرين من المركز إلى "مجموعات" الطلاب الموزّعة جغرافيًا الذين يحضرون الفصول في فرقٍ صغيرة، ستكون لها مساحة عمل مشتركة، مثل التجارة والعمل، وسيصبح التعليم العالي حياديًا في مواقعه الجديدة.
من طرف آخر، نسمع أن الحياة لم تعد منفتحة، بحيث سيخفّ ارتياد الإنسان التجمّعات والمطاعم ومراكز التسوّق والأندية والمنتجعات ومراكز الرياضة ودور السينما والحفلات والصالونات والمسارح والملاعب وكلّ الأماكن المغلقة، وهي التي اعتاد الإنسان عليها منذ آلاف أو مئات السنين، وصقلت مواهبه، وجعلته يتهذّب اجتماعياً، كونه اجتماعيا بطبعه، فهل سيتأقلم بسرعة مع طقوس 2021 الجديدة؟