عن هويّة المنتخب المغربي في المونديال... سؤال للنقاش
تردّدتْ على عناوين صحف العالم أخبارُ أوّل منتخب عربي إفريقي مسلم يصل إلى نصف نهائي كأس العالم (مونديال قطر 2022). هذه حملة تعريف هائلة بالبلد. حصل المغرب على مديح غير مسبوق. تلقّى المغاربة التهاني من شعوب العالم. شوهد أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد، يرفع العلم المغربي. شاركت شرطة مغربية في تأمين المونديال الذي عمل المنتج والموسيقيّ المغربي ريدوان مديراً تنفيذياً للترفيه الإبداعي فيه. انتشرت صُور احتفالات في إندونيسيا وغزّة وباريس وبروكسل وأوتاوا ونيويورك. تلقّى ملك المغرب، محمد السادس، تهاني قادّة دول عدّة. شوهد الرئيس الأميركي، جو بايدن، يتابع مباراة المغرب ـ فرنسا مع رئيس الوزراء المغربي عزيز أخنوش.
حظي المنتخب المغربي بدعمٍ عربي شديد. رقص المغاربة لفوز المنتخب السعودي على الأرجنتين، وحصلوا على الجائزة نفسها. نال البلد تسويقاً غير مسبوق. تلقّى حارس المنتخب، ياسين بونو، مديحاً وغزلاً وشهرةً يتعذّر وصفها. مرّت الأيام، وارتفعت التوقّعات. سيُغيّر هذا المونديال نظرة مغاربة كثيرين إلى أنفسهم والعالم. سيُحرّرهم نفسياً، ويشحذ عزيمتهم في حياتهم اليومية. ثمّ بلغ النقاش حول المنتخب أصعب نقطة: من هذا المنتخب؟ أجابت الصحيفة الإسبانية "ال باييس" بأنّ "المغرب في نصف النهائي كأنّ العالمين العربي والإفريقي تأهّلا". قال مدرّب المنتخب المغربي وليد الركراكي: "نحن نمثّل المغرب، ونودّ أنْ نعكس صورة للعالم لمن يجهلون ثقافتنا ولعبنا ومن أين أتينا، وكيف نعامل أمهاتنا وزوجاتنا".
"مونديال قطر 2022" فرصة إشعاع للمغرب، وفرصة فرح لملايين المغاربة بعد كورونا والجفاف والغلاء. في هذا الخضمّ، ارتفعت أصواتٌ مغربيةٌ تعارض هذا التعريف: ندّد رئيس "التجمّع العالمي الأمازيغي"، رشيد رخا، بعنصرية الإعلام العمومي المغربي، الذي يصف المنتخب المغربي بأنّه عربي. هكذا صارت الكرة والفرح مسألة هوية.
"مونديال قطر 2022" فرصة إشعاع للمغرب، وفرصة فرح لملايين المغاربة بعد كورونا والجفاف والغلاء
بدل الترفّع عن هذا الجدل وإنكاره، يجب مواجهته ومحاصرته في عتمته الصغيرة، بهدف إضاءته وتبديده. كيف تصير مباراة في كرة القدم سبباً لجدل هوياتٍ عرقيةٍ ودينيةٍ وجنسية، وصدام حضارات، وعلاقات شعوب؟ هل هذه القضايا مضغوطة وسط قطعة الجلد المستديرة المنفوخة، أم سجالات مخزّنة في الرؤوس المستديرة للناس التي تتدحرّج أكثر من الكرة؟ الجواب النظري: الكرة بريئة. الباحثون عن فرصة انتهازية للّمعان هم مصدر الجدل. يزعم هذا التيار أنّ التفاخر بالبعدين، العربي والإسلامي، للمغرب "استلابٌ فكريّ وهوياتيّ". الجواب العملي: لم يقلْ أيّ لاعب إنّ المنتخب المغربي ليس عربياً، فمن خَوّل ذلك الشخص الحديث باسم اللاعبين؟ من أولئك اللاعبين، حارس المرمى بونو، الذي كان قد أصرّ في مؤتمر صحافي في مونديال قطر على إجابة الصحافة الأجنبية باللغة العربية. لم يُدافع أيّ لاعبٍ عن نزعة مركزية شمال إفريقية، تختزل الهوية في اللغة، وتتجاهل العربية والدين الإسلامي. سجود اللاعبين في نهاية كلّ مباراة تعبيرٌ واضحٌ عن الانتماء الإسلامي (للتذكير: ياسين اسم سورة في القرآن).
هذا سلوك، وكلّ خطاب مزايدة. يحقّ للناس اختيار هويّاتهم. تصنيف منتخب شمال إفريقيّ بأنّه أمازيغي حصراً مُصادرة لحقّ أعضاء المنتخب في تعريف هويّتهم بأنفسهم. هذا واقع. لكنْ، مع كلّ فوز، يردّد عرقيّون: منتخب أمازيغي شمال إفريقي. منتخب غير عربي وغير إسلامي. يستغلّ هؤلاء المؤدلجون العرقيون الحدث الكروي للخروج من الظلّ، ومحاولة فرض تصوّرهم الضيّق للهوية على الآخرين.
في أكتوبر/ تشرين الأول 2022، بينما يُصوّر المخرج محمد بوزكو فيلماً عن انتصار المغرب على الإسبان في حربٍ جرت عام 1921، رفض المتمسّكون بهوية مغربية قبلية أنْ يؤدّي الممثّل ربيع القاطي دور المقاوم عبد الكريم الخطابي، بدعوى أنّ الممثل ليس أمازيغياً. خسروا المعركة، لأنّ الممثل لا يمثّل بلسانه فقط، بل أيضا بوجهه وملامحه. أكبر شاهدٍ على ذلك من السينما العالمية، دور عمر المختار، الذي أدّاه أنطوني كوين بنجاح في فيلم مصطفى العقّاد (1981، العنوان بالإنكليزية: "أسد الصحراء").
سيُغيّر مونديال قطر منظور مغاربة كثيرين إلى أنفسهم والعالم. سيُحرّرهم نفسياً، ويشحذ عزيمتهم في حياتهم اليومية
الآن، بعد انطفاء جدل هوية الممثل، وبمناسبة المونديال، يحاول هؤلاء الشوفينيّون الركوب على أفراح الناس، لفتح معركة جديدة بنفي عروبة المنتخب، "أسود الأطلس". المؤسف أنّ صوت المؤدلجين قويٌ في الإعلام، والمفرح، في الوقت نفسه، أنّ صوتهم ضعيفٌ في الواقع. انتقل المنتخب المغربي إلى نصف النهائي، فبلغ النقاش حوله أصعب نقطة: ما هذا المنتخب؟ ظهرت أصوات شوفينية تُصنّف المنتخب عرقياً وقبلياً. العالم يدعمنا، ونحن ننكمش. هذا ردّ فعل سلبي انعزالي على الانتصار، بربط المنتخب بمنطقة جغرافية. مؤدلجون يتمسّكون بأفقٍ جغرافي محدود، على حساب أفقٍ حضاري مفتوح على الإنسانية.
الأمازيغية مُكوّنٌ أساسيٌّ للثقافة الوطنية المغربية، لكنها ليست المكوّن الوحيد. أنا مغربيٌّ أعيش فرحة غير مسبوقة، وحدثاً سيكون له تأثير جيوستراتيجي على المدى الطويل. شخصياً، تحدّثتُ اللغة الأمازيغية منذ الصغر، وتعلّمت العربية في المدرسة، وأكتب بها. أعرّف نفسي بأني مغربي عربي إفريقي مسلم. هذه هوية جامعة. بالتالي، أسدّ الباب على كلّ من يسأل: هل أنت عربي أم أمازيغي أم أخواني أم سلفيّ؟ هذا سؤال فخّ. الذين يحتفلون مغاربة، والذين يتضامنون معهم في كلّ العالم يعرفونهم أنّهم مغاربة.
صمام الأمان ضد هذا الفخّ والمنزلق، أنْ يُعرّف المغربي نفسه بكلمة واحدة: مغربي. المنتخب المغربي يمثّل شمال إفريقيا والعرب وإفريقيا والمسلمين. هذا الجواب يتنفّسه الناس في الشارع. هذا مغربٌ متعدّدٌ بمكوّنات هويته. يتعزّز هذا بتوالي التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي، التي تدحض الشوفينية، وتشدد على المغرب المتعدّد، الذي يقع في ملتقى اللغات والقارّات والبحار والهجرات والديانات، وهضم هذا كلّه في هوية واضحة: مغربيّة.
كلّ هذه الطاقة الإيجابية التي تشعّ من المغرب إلى العالم، ستكون منتجة
هذه المقالة مكتوبة عشية مباراة نصف النهائيّ بين المغرب وفرنسا. ألاحظ وجوهاً تنتظر، وقلوباً تنبض. خوف رهيب. حقيقة، لا نخاف من الخسارة، بل من فقدان الإشعاع العالمي للمغرب. هذا حدثٌ يجمع بين فرحة الشعوب والتنافس الجيوستراتيجي بين الدول والأمم. كشف المونديال صراعاً وتنافساً مُتعدّد الأبعاد، عالمياً وجهوياً ومحلياً. البعد الأول عالمي، بين العالم العربي ـ الإسلامي والغرب. جرى التشكيك طويلاً في استحقاق العرب تنظيم كأس العالم، ثمّ أرسل الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وزيرة الرياضة، لورا فليسيل، بقميص قوس قزح إلى الدوحة، لتتفرّج. ثم جاء هو نفسه ليتحقّق من مستوى التنظيم. قدّم مونديال 2022 صورة أخرى عن العرب والخليج، غير التي كشفها إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق" (1978). البعد الثاني عربي، كالذي جرى حين منع النظام في الجزائر تلفزيونه الرسمي من بثّ أخبار انتصار منتخب المغرب. البعد الثالث داخلي، في دولة كالمغرب، بين النزعة الانغلاقية وتلك المحتفية بالتعدّدين العرقي والثقافي للبلد.
بدل الترفّع عن هذا الجدل، يجب بحث كيفية تجاوزه. لهذا سوابق: عندما فاز منتخب فرنسا بكأس العالم عام 1998، بلاعبيه ذوي الأصول الإفريقية، تلقّى اليمين العرقي الفرنسي ضربة قاتلة. هذا درسٌ وإنجاز وتحوّل سياسي اجتماعي، تحقّقه كرة القدم بأقلّ التكاليف.
يُمكن الكرة أنْ تكون مفيدة في تجديد تعريف الهويات وتسامحها. هذه نقاشاتُ الآن في المغرب، مع المتمسّكين بهوية مغربية قبلية، ستصعقهم وتفضحهم. كلّ هذه الطاقة الإيجابية التي تشعّ من المغرب إلى العالم، ستكون منتجة. الكرة فاعل جيوستراتيجي. لن يغطّي جدل الهوية الميكروسكوبي على الإنجاز التاريخي للمنتخب المغربي. العالم مبتهج. الرئيس بايدن يتسلّم قميص المنتخب في واشنطن.
النتيحة، مجدّداً: سيُغيّر هذا المونديال منظور مغاربة كثيرين إلى أنفسهم والعالم. سيُحرّرهم نفسياً، ويشحذ عزيمتهم في حياتهم اليومية. سيتقوّى الأثر كلّما احتفلت الشعوب الأخرى بنصر هذا المنتخب المغربي العربي الإسلامي الإفريقي.