عودة القطيعة بين الجزائر والمغرب
يعيد قرار الحكومة الجزائرية قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب التأكيد على أن الخلافات المزمنة والأجواء العدائية ما تزال تفعل فعلها بين البلدين، وأن منسوب التأزّم والتوتر بينهما قد ارتفع من جديد إلى مستوىً اعتبرت فيه القيادة السياسية الجزائرية نظيرتها في المملكة المغربية طرفاً معادياً لسياساتها وتوجّهاتها، ليس فقط في منطقة المغرب العربي، بل في الجوارين، الإقليمي والأفريقي، ويطاول ذلك العلاقات مع إيران وإسرائيل وتركيا والولايات المتحدة وفرنسا وإسبانيا وسواها، في ظل استمرار تباين المواقف المتعلقة بأزمة الصحراء الغربية، واتهامات التدخل في الشؤون الداخلية، إضافة إلى اتهامات بالمساس بأمن البلدين.
حيثيات التأزم والتوتر
ولا يخرج البيان، الذي أعلن فيه وزير الخارجية الجزائري، رمطان لعمامرة، قرار قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب، عن التأكيد على نسف جميع جهود التطبيع بين البلدين، بالنظر إلى جملة من الخلافات العميقة التي يمتد بعضها إلى عدة عقود من القطيعة والعداء في تاريخ العلاقات بينهما، ووصفها البيان الجزائري بـ"المؤامرات الدنيئة التي تحيكها المملكة المغربية ضد الجزائر"، واعتبرها "مثبتة تاريخياً، ومتواصلة منذ الاستقلال... انطلاقاً من الحرب العدوانية التي شنتها ضد بلادنا سنة 1963، التي راح ضحيتها أزيد من 800 شهيد جزائري، وصولاً إلى الاتهامات الباطلة التي أطلقها وزير الخارجية الإسرائيلي في زيارته إلى المغرب بحضور نظيره المغربي".
ويبدو أن دخول إسرائيل على ملف تأزم العلاقات بين الجزائر والمغرب، خصوصا بعد تطبيع العلاقات بين المغرب وإسرائيل في 10 ديسمبر/ كانون الأول 2020، دفع الأوساط السياسية والإعلامية الجزائرية إلى الحديث أن المغرب أصبح منصة لقوى خارجية معادية للجزائر، و"يتآمر ضد الجزائر باتفاق مع الكيان الصهيوني". وزادت وتيرة هذا الاتهام على خلفية إثارة فضيحة "بيغاسوس" التي تمّ الكشف فيها عن عمليات تجسّس استهدفت أرقام هواتف شخصيات ومسؤولين سياسيين وعسكريين جزائريين، واتهام المغرب في الوقوف وراءها، من دون تقديم دلائل تذكر، فضلاً عن اتهامه بتصدير مخدّرات إلى الجزائر وسوى ذلك.
قادت الجزائر حملة ديبلوماسية ضد عودة إسرائيل إلى الاتحاد الأفريقي بصفة مراقب، فيما حظيت عودتها بدعم المغرب
وأسهمت تصريحات لوزير الخارجية الإسرائيلي، يئير لبيد، أطلقها أخيرا من الرباط، في تأجيج نيران الأزمة، وعبّر فيها عن قلقه من "الدور الذي تلعبه الجزائر في المنطقة" وعن مخاوفه "من التقارب الجزائري مع إيران"، الأمر الذي اعتبرته القيادة السياسية الجزائرية رسالة عدوانية ضد بلادهم، و"تتعارض مع كل الأعراف والاتفاقات بين البلدين، وهو دليل على العداء الشديد دون أدنى أي قيد أو حدود".
وأعربت وزارة الخارجية المغربية عن أسفها لقرار الجزائر قطع العلاقات الدبلوماسية، ووصفته بأنه "غير مبرّر تماماً"، وأرجعته إلى سيادة ما أسمته منطق التصعيد المسجّل خلال الآونة الأخيرة، رافضة رفضاً قاطعاً "الذرائع الواهية والسخيفة"، وراءه. واعتبر مسؤولون مغاربة أن ما ساقته الجزائر من اتهامات ضد بلادهم غير صحيح جملة وتفصيلاً، واتهموها بالعمل مع إسبانيا في عملية نقل زعيم جبهة البوليساريو، إبراهيم غالي، من أجل العلاج في أحد المستشفيات الإسبانية بشكل سرّي، وبهوية مزورة، ما تسبّب في اندلاع أزمة بين المغرب وإسبانيا. إلى جانب اتهام الجزائر بدعم "البوليساريو" مالياً ومنحها جزءاً من أرضها ودعمها المالي المهم، واتهام أجهزة الأمن الجزائرية بالضلوع في تفجير فندق أطلس أسني في مراكش عام 1994، والذي استدعى إغلاق الجزائر حدودها البرية مع المغرب.
بوادر التأزم (والتوتر) بين الجزائر المغرب وحيثياته متعدّدة، وعلى أكثر من صعيد، وهي تتداخل مع أزماتٍ وملفاتٍ أخرى، فضلاً عن فقدان الثقة بين القيادات السياسية في كلا البلدين، حيث قادت الجزائر حملة ديبلوماسية ضد عودة إسرائيل إلى الاتحاد الأفريقي بصفة مراقب، فيما حظيت عودتها بدعم المملكة المغربية. وفي مقابل علاقات المغرب مع إسرائيل، لجأت الجزائر إلى الانفتاح على كل من إيران وتركيا، وكان الرد في ملف الصحراء الغربية عبر الصفقة التي أبرمها الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، وقضت باعتراف أميركي بسيادة المغرب على الصحراء في مقابل تطبيعه مع إسرائيل، وقوبلت هذه الصفقة برفض جزائري.
شكّل اندلاع حرائق الغابات في الجزائر مناسبة لمراجعة الحكومة الجزائرية علاقاتها مع المغرب، بعد اتهامها بالتورّط في الحرائق
وفيما تعتبر الجزائر أن الصراع في الصحراء الغربية يدخل في سياق تصفية الاستعمار وحق تقرير المصير، وتتطلّب حلاً عبر تطبيق القانون الدولي، وهو ما يرفضه المغرب الذي يؤكد أن الصحراء جزءٌ من ترابه الوطني، إلا أنه قابل ذلك بإعلان مندوب المغرب في الأمم المتحدة تأييده استقلال منطقة القبائل في الجزائر، خلال اجتماع لحركة عدم الانحياز في يوليو/ تموزالماضي في نيويورك. وفي إثر ذلك، استدعت الجزائر سفيرها في الرباط "للتشاور" ولم يعد. ثم شكّل اندلاع حرائق الغابات في الجزائر مناسبة لمراجعة الحكومة الجزائرية علاقاتها مع المغرب، بعد اتهامها بالتورّط في الحرائق، حيث أصدرت الرئاسة الجزائرية بياناً في 18 أغسطس/ آب الماضي، في أعقاب اجتماع استثنائي للمجلس الأعلى للأمن، اعتبرت فيه أن "الأعمال العدائية المتكررة من طرف المغرب ضد الجزائر، تطلبت إعادة النظر في العلاقات بين البلدين، وتكثيف المراقبة الأمنية على الحدود الغربية"، وأنه ثبت "ضلوع الحركتين الإرهابيتين، حركة استقلال القبائل (الماك) وحركة رشاد الإسلامية، في إشعالها، وكذا تورّطهما في اغتيال المرحوم جمال بن سماعيل". وعليه، قرّر "المجلس الأعلى للأمن تكثيف المصالح الأمنية، لجهودها من أجل إلقاء القبض على باقي المتورّطين في الجريمتين، وكل المنتمين للحركتين الإرهابيتين، اللتين تهددان الأمن العام والوحدة الوطنية، إلى غاية استئصالهما جذرياً، لا سيما (الماك) التي تتلقى الدعم والمساعدة من أطراف أجنبية، خاصة المغرب والكيان الصهيوني".
جذور الأزمة ومفاعيلها
تعود جذور الأزمة بين الجزائر والمغرب إلى أكثر من ستة عقود خلت، إذ على الرغم من أن ملك المغرب الأسبق، محمد الخامس، استقبل في أكتوبر/ تشرين الأول من العام 1956 القادة الخمسة للثورة الجزائرية، أحمد بن بلة، ومحمد بوضياف، وحسين آيت أحمد، ومحمد خيذر، ومصطفى الأشرف، وأثار استقباله لهم غضب الحكومة الفرنسية آنذاك، إلا أنه بعد استقلال الجزائر بحوالي سنة، أي في 1963، اندلعت "حرب الرمال" بين البلدين، على خلفية خلاف حدودي على جزء من رمال الصحراء الجزائرية، ثم تفاقمت الأزمة بين البلدين في سبعينيات القرن العشرين بسبب قضية الصحراء الغربية، حين رفضت القيادة الجزائرية، بزعامة هواري بومدين، الاعتراف بالمستعمرة الإسبانية السابقة جزءا من الأراضي المغربية، وراحت تقدّم كل أشكال الدعم لحركة البوليساريو، التي أعلنت في 1976 تأسيس الجمهورية الصحراوية، واعترفت بها الحكومة الجزائرية، الأمر الذي دفع الملك الحسن الثاني إلى قطع علاقات المغرب مع الجزائر. ثم شهدت علاقات البلدين توتراً جديداً بعد تفجير فندق "أطلس أسني" في مراكش عام 1994 واتهام شبّان جزائريين فيه، فقرّر المغرب فرض التأشيرة على دخول الجزائريين، فيما ردّت الجزائر بإغلاق حدودها البرّية مع المغرب.
قامت السعودية بوساطة بين البلدين عام 1987، حيث تمكّن الملك فهد من الجمع بين الحسن الثاني وبن جديد
وشهدت العلاقات الجزائرية المغربية انفراجة مع اللقاء الذي جمع الملك الحسن الثاني مع الرئيس الجزائري، الشاذلي بن جديد، على الحدود بين البلدين في 26 فبراير/ شباط 1983، ليتقرّر بعده استئناف حرية الحركة لمواطني البلدين، وتوقيع اتفاقية حول حرية الحركة التدريجية للأشخاص والبضائع، وكذلك فتح خطوط جوية وخطوط السكك الحديدية.
وقامت السعودية بوساطة بين البلدين عام 1987، حيث تمكّن الملك فهد بن عبد العزيز من الجمع بين الحسن الثاني وبن جديد في ما سميت قمة مغنية في 4 مايو/ أيار 1987، جرى إثرها تحسن في علاقات البلدين. ثم أعلن عن استئناف العلاقات الديبلوماسية بين البلدين في 16 مايو/ أيار 1988، فيما أعيد فتح الحدود بينهما رسمياً في 5 يونيو/ حزيران من العام نفسه، وبعدها قام الحسن الثاني في 7 يونيو/ حزيران 1988 بأول زيارة له إلى الجزائر، فيما قام الشاذلي بن جديد في بداية فبراير/ شباط 1989، بأول زيارة له إلى مدينة إيفران في المغرب، أفضت إلى الاتفاق على مشروع خط أنابيب غاز يربط الجزائر بأوروبا عبر المغرب.
وشهدت قمة الدول المغاربية، في مراكش في 17 فبراير/ شباط 1989، إعلان تأسيس الاتحاد المغاربي، الذي ولد على الورق وبقي في حالة موت سريري، حين عاد التأزم إلى علاقات البلدين في 16 أغسطس/ آب 1994 على خلفية تصريحات للرئيس الجزائري آنذاك، اليامين زروال، اعتبر فيها أنه ما زال هناك في أفريقيا "دولة محتلة بشكل غير قانوني" في إشارة إلى الصحراء الغربية. وعلى الرغم من مشاركة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في تشييع جنازة الحسن الثاني بالرباط في 25 يوليو/ تموز 1999، فإنّ تطبيعا لم يتحقق بين البلدين، بسبب اتهام المغرب بتسهيل تسلل مسلحين إسلاميين إلى الجزائر، ثم عقدت لقاءات بين الرئيس بوتفليقة والملك محمد السادس في مارس/ آذار 2005، ساهمت في تخفيف التوتر بين البلدين، إلى أن تقرّر في يوليو/ تموز 2011 إعادة فتح الحدود البرية وتطبيع العلاقات بين البلدين.
يعدّ أنبوب الغاز الرابط بين الجزائر وإسبانيا عبر المغرب المشروع الاستراتيجي الوحيد الذي يجمع البلدين
وعلى الرغم من التهنئة التي وجهها الملك محمد السادس إلى الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في ديسمبر/ كانون الأول 2019، ودعوته إلى فتح "صفحة جديدة" بين البلدين، إلا أن منسوب التوتر بدأ بالارتفاع بسبب جملة من القضايا المستجدّة والمتراكمة بينهما، وأفضت إلى إعلان وزير الخارجية الجزائري، رمطان لعمامرة، في 24 من أغسطس/ آب الماضي، قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
الآثار الاقتصادية
ستكون لقطع العلاقات بين المغرب والجزائر تداعيات وآثارٌ سلبية على مختلف المستويات، لكن السؤال يطاول مدى تأثر المصالح الاقتصادية للبلدين، وخصوصا في ما يتصل بالإجراءات التي ستتخذ بشأن أنبوب الغاز الذي يربط حقول الجزائر بالبلدان الأوروبية مروراً بالمغرب، وينتهي الاتفاق بشأنه في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، حيث يؤكد مسؤولون في المغرب حرص بلادهم على الاستمرار في العمل بخط تصدير الغاز المارّ عبرها، فيما يرى مسؤولون في الجزائر أن بلادهم قادرة على ضمان إمداد إسبانيا بالغاز الطبيعي عبر أنبوب الغاز المتوسطي "ميدغاز" الرابط بين الجزائر وإسبانيا عبر البحر المتوسط، وأنهم اتخذوا كل الإجراءات الضرورية في حال عدم تجديد عقد الامتياز لخط الغاز المار بالمغرب.
ويعدّ أنبوب الغاز الرابط بين الجزائر وإسبانيا عبر المغرب المشروع الاستراتيجي الوحيد الذي يجمع البلدين، وجرى تنفيذه في 1997، بتكلفة استثمارية بلغت 2.3 مليار دولار، خُصص حوالي 900 مليون دولار منها للقسم البرّي الممتد في المغرب وصولاً إلى مضيق جبل طارق، وطوله 2136 كيلومتراً، انطلاقاً من صحراء الجزائر، وتحصل المغرب على بدل الرسوم الضريبية بنسبة 10% من عائدات الغاز الجزائري المُسال في الأنبوب العابر أراضيها حسب الاتفاق المبرم بين إسبانيا والجزائر والبنك الأوروبي للاستثمار. ويقدّر الخبراء كمية الغاز الجارية به بحوالي 20 مليار متر مكعب سنوياً، أي أن نصيب المغرب يقترب من 1.5 مليار دولار سنوياً.
امتداد الصراع والتوتر بين النظامين السياسيين في البلدين، راكم تاريخاً مديداً من العداء وفقدان الثقة
ونتيجة التوترات التي شهدتها علاقات البلدين منذ "حرب الرمال"، فإن العلاقات الاقتصادية بين الجزائر والمغرب لن تتأثر كثيراً بقطع العلاقات بينهما، كونها كانت ضعيفة بالأصل ولم تكن في المستوى المطلوب بين بلدين متجاورين وكبيرين، إذ تفيد إحصاءات رسمية بأن صادرات المغرب إلى الجزائر بلغت 133.8 مليون دولار في 2020، في حين أن إجمالي صادراتها إلى بلدان العالم بلغ 27.7 مليار دولار، ما يعني أن نسبة صادرات المغرب إلى الجزائر بلغت 0.5% فقط من إجمالي صادراتها. في المقابل، بلغت صادرت الجزائر إلى المغرب في 2020 حوالي 433.4 مليون دولار، في حين أن إجمالي صادراتها إلى دول العالم بلغ 20.9 مليار دولار، ما يعني أن نسبة الصادرات الجزائرية إلى المغرب بلغت 2% من إجمالي صادراتها.
استمرار القطيعة
على الرغم من أنها ليست المرّة الأولى التي تقطع فيها علاقات الجزائر مع المغرب، إلا أن قرار الجزائر أخيرا جاء مخيباً لآمال الشعبين، الجزائري والمغربي، كونه يسهم في استمرار حالة عدم استقرار المنطقة المغاربية، وزيادة حدّة النزاع والتوتر المستمر بين البلدين منذ عقود. وفيما تميل تحليلاتٌ إلى اعتبار القرار بمثابة قفزة في الفراغ، ومحاولة من النظام الجزائري تصدير الأزمة الداخلية، إلا أنه يُظهر مدى صعوبة التوصل إلى نقطة التقاء حقيقي ومباشر في مجرى العلاقات الجزائرية المغربية التي وصلت إلى حدّ القطيعة الديبلوماسية، بالنظر إلى امتداد الصراع والتوتر بين النظامين السياسيين في البلدين، الذي راكم تاريخاً مديداً من العداء وفقدان الثقة. وبالتالي، فإن حدّة التوتر والصراع بين البلدين ستزداد في المحافل الدولية والإقليمية، عوضاً عن تنسيق الجهود لمواجهة التحدّيات الداخلية التي تواجه كليهما، في ظل تدخل أطرافٍ دوليةٍ تزيد من أسباب القطيعة، في حين أن تفكيك الأزمة بينهما يتطلب طرفاً عربياً أو دولياً فاعلا، وتتوفر فيه شروط الوسيط الذي يمتلك الرغبة والإرادة لحث الطرفين على تخفيف منسوب التوتر وحلّ الخلافات بينهما. وهذا الوسيط غائب تماماً، الأمر الذي يشي بأن منطقة المغرب العربي ستظل تعيش أحداثاً عاصفة، وتموج بتطوّرات دراماتيكية ستنعكس سلباً على حياة شعوبها واستقرار دولها.