عودة "خريف الغضب" إلى العراق
استطاع "خريف الغضب" العراقي، في عنفوانه الأول قبل خمس سنين، أن يُسقط حكومة عادل عبد المهدي، وأن يدفع الطبقة الحاكمة المأزومة إلى محاولة احتواء موجة الغضب الجامحة آنذاك، والتي كسرت حاجز الخوف، وتجاوزت "الخطوط الحمر" بمطالبتها الصريحة بإنهاء الهيمنة الايرانية. ورفعت علنا، ولأول مرة، هتاف "إيران برّه برّه" الذي أرعب دولة "ولاية الفقيه"، ودفعها إلى نصح وكلائها في العراق، بعدما تصاعدت حركة الاحتجاجات لتشمل مدناً أخرى غير بغداد، بالتضحية بحكومة عبد المهدي، وتحميلها المسؤولية عما جرى، وجيء بمصطفى الكاظمي رئيساً لحكومة "انتخابات مبكّرة"، وعدت بالعمل على توفير الخدمات الأساسية، ومعالجة مشكلات الكهرباء، والفقر، والبطالة، والوضع الصحي، ومحاربة الفساد، وحصر السلاح بيد الدولة، وكذلك الاقتصاص ممن أطلق النار على المتظاهرين، والمسؤول الذي أمر بذلك، وتعويض من تضرّر.
وإذ توهّمت الطبقة الحاكمة، في حينها، أنها امتصّت بهذه الخطوات موجة الغضب التي خلفت أكثر من 60 قتيلا، وما يقرب من 30 ألف جريح ومعاق، عاودت سيرتها الأولى، خاصة بعد انفراد "الإطار التنسيقي" بالسلطة يقوده "الحيتان الكبار" وقادة المليشيات إثر انسحاب نواب التيار الصدري من البرلمان، ووجدت في فشل الكاظمي في تحقيق ما أرداه المحتجّون المبرر لإبعاده عن السلطة وقتل طموحه في ولاية ثانية، وتكليف العضو السابق في حزب الدعوة محمد شياع السوداني لتشكيل "حكومة خدمات" ساعية إلى إبقاء السلطة الحقيقية بيدها مهدّدة، بين فترة وأخرى، بإطاحة السوداني نفسه إذا ما حاول الخروج على ما رسم له.
وبالطبع، استمرّ تدهور الأوضاع، واتّسعت مساحة العبث لقادة المليشيات والمافيات في ظل الهيمنة الإيرانية على القرار، ولم ينتظر "التشرينيون" الذين أوقدوا شرارة "خريف الغضب" في عنفوانه الأول طويلاً بعدما شعروا أنهم محاصرون، وأن ثمّة أكثر من جهة وشخصية وحزب تريد معاقبتهم على خلفية ما أطلقوه من شعاراتٍ ومطالب. ولذلك قرّر فريق منهم العودة إلى الشارع، والسعي إلى استنهاض القوى الحية فيه على طريق إنجاز التغيير الذي يريدونه. وتوافق شباب محافظة ذي قار الجنوبية على أن يحملوا الراية هذه المرّة، خاصة بعدما أخرجت القوى الأمنية من أدراجها السرّية أوامر قبض قديمة تستهدف مئات الناشطين الذين شاركوا في حركة الاحتجاجات التي حدثت في المحافظة عام 2019 وما بعده، واعتقلت معظمهم. وشهدت مدينة الناصرية عاصمة المحافظة تجمّعات ضخمة احتجاجا على هذه الخطوة، واجهتها قوات الشرطة باستخدام القنابل الدخانية، لكن ذلك لم يمنع المتظاهرين من الاستمرار في حراكهم. وعند هذا المفصل، انتاب الرعب رجال السلطة في بغداد، خشية أن تنتقل عدوى الحراك إلى محافظات أخرى، ووصلت بعثة برلمانية إلى المحافظة، والتقت القيادات المحلية في مسعىً إلى تطويق الأزمة، إلا أن أهالي المدينة أصرّوا على مطلبهم الرئيس بإطلاق سراح المعتقلين، وإلغاء مذكّرات القبض الصادرة بحقّ آخرين، وإقالة قائد الشرطة الذي تسبّب في هذه الإشكالات بتصريحاته التي استفزت الناشطين الذين أمهلوا السلطة 48 ساعة لتحقيق مطلبهم هذا، كما دعوا إلى العناية بالمحافظة وإيجاد حلول لمشكلاتها.
انتاب الرعب رجال السلطة في بغداد، خشية أن تنتقل عدوى الحراك إلى محافظات أخرى
وكان لافتاً، خلال كل هذه التداعيات، سعي بعض أطراف الحكم إلى ركوب الموجة، وإبداء التعاطف مع مطالب المتظاهرين، واضعين أنفسهم في موقع المساند، أو على الأقل المتفهم لها، وعيونهم على الانتخابات البرلمانية التي يُفترض أن تجرى العام المقبل، كما كان لافتاً أيضا ارتفاع صوت شيوعيي المحافظة في دعم الحراك الذي جاء "نتيجة الصراع السياسي الدائر في المحافظة، والتدافع على تقاسم السلطة والمغانم، وتدهور المستوى المعيشي للمواطنين"، وشجب "ممارسات السلطة في قمع الحرّيات، ومصادرة حقّ التعبير والتظاهر السلمي"، وهو موقفٌ يُحسب لهم بعد فترة السبات الطويل التي عاشوها بعيداً عن جماهيرهم.
إلى ذلك، يبقى أن ما يُؤخذ على الموجة الجديدة من "خريف الغضب" تركيزها على المطالب المعيشية والاقتصادية ومطالب الخدمات، وإهمال أية مطالب سياسية جوهرية، كالتي دعا إليها الناشطون في عنفوان الموجات الأولى عام 2019 وما بعده، كما يُؤخذ عليها أيضا أنها لم تتقدّم لتشمل محافظات ومدنا أخرى حتى الساعة. ومن جانب آخر، يسجّل لها أن مجرّد انطلاقها، وبهذا الزخم الذي أرعب الطبقة الحاكمة، يظل محطّة مهمّة عل طريق التغيير، وتحمل بشارة خير بولادة حراك شعبي قادم أكثر تنظيما وقوة، وأكثر وضوحاً ونضوجاً في رؤيته إلى مسار النظام السياسي في البلاد، وكسرها حاجز الخوف واللامبالاة التي سادت في بعض المراحل.