عيسى مخلوف، على ضفافٍ أخرى
نقلتني قراءةُ الكتاب الصادر حديثا تحت عنوان "ضفاف أخرى" عن دار الرافدين، وهو حوار، أو لنقل "مسامرة" عميقة هادئة، قدّم لها وأجراها بكل براعة الكاتبُ العراقي علي محمود خضيّر، مع الشاعر اللبناني عيسى مخلوف، إلى زمنٍ آخر، كانت للمعرفة والثقافة والكتابة فيه نكهاتٌ أصيلة أخرى. بيد أن الحوار لا يكتفي بذلك، إذ يسافر بقارئه عبر الأمكنة والفضاءات والأزمنة المختلفة، ناهبًا دروبًا كثيرةً تجتمع في جغرافيا الذاكرة والاستحضار والمحاكاة والمساءلة والسرد. بيد أن الاستحضار هنا بعثٌ وانبعاثٌ، لأن الفكرة التي ذُكرت، والتجربة التي مرّت، والجملة التي قيلت، والمعرفة التي خيضت، صنعت النصّ متنا وهامشا، بقدر ما تصنعه الكلمات. الفقد والحرب والموت والهجرة واكتشاف البعيد، المختلف، الآخر الذي لا نشبهه ولا يشبهنا، ومع ذلك، يجمعنا به الكثير. رحلة في ذاكرة عيسى مخلوف؟ لا بل هي رحلةٌ في رأسه حاضرا الآن، طازجة ومستمرّة، من خلال الخوض في المواضيع التي تشغل بال العالم اليوم، وفي ارتداداتها الكثيرة متعدّدة الأبعاد والمستويات. نحن هنا للتأكيد على أن الإبداع فعل حرية، فعل انضمام إلى الإنسانية في جانبها المضيء، وعلى أن الضوء مقابل العتمة، الجهل، الاستبداد، العنف، التمسّك بالماضي والخروج من فضاء الحياة. العنف والقتل لأتفه الأسباب، وضرورة الابتعاد عن جحيم خلقناه بأيدينا في تلك المنطقة من العالم، وما زلنا نغذّيه، ونعيد إنتاجه كل يوم. هو نصٌّ مؤلّفٌ من نصوصٍ ستشدّك إليها رغما عنك، تُحكم وثاقك وتجعلك تعود أحيانًا إلى ما سبق أن قرأتَ فبدا، للوهلة الأولى، وكأنّه سقط سهوًا بين جملتين. لا، لم تخنك ذاكرتك، تُطمئن ذاتَكَ، لقد قيل الكلامُ هذا قبلا في سياقٍ آخر، وها هو في هذا الفصل يُصبح هو السياق.
ولا بد للحساسية العالية التي ينضح بها الحوار من أن تكون حساسية شاعر. ولا بد لهذا الوعي والإدراك من أن يكونا وعي قارئٍ، ملآن بقدر ما هو فارغ، منفتح على الاكتشاف والاستزادة والمساءلة والتعميق، ومنغلق أمام التمسّك بالرأي الواحد والحقيقة المطلقة. لتكن الكلمة هي البدء، ولتكن حقيقةً ونورا وتجلّيا، يتذوّقها موسيقى وأدبا وهندسة معمارية وفنا تشكيليا وأسئلة علمية وبيئية و.. وفي النهاية، من يأتي كل هذا الشرّ وذاك الولع المخيف بالتدمير والقتل والعتمة؟
مقابلة وجه الموت باكرا جدا مع فقد الأخ، ثم الهرب من الحرب الأهلية إلى فنزويلا ومنها إلى باريس، ثم الانتقال إلى العمل مستشارا ثقافيا في نيويورك، ثم العودة إلى باريس. "نحن أيضا محصّلة الأماكن التي نعيش فيها (...) يتشرّبها الكائن وروحه وتصبح جزءا من كيانه". لكنّ الرّائي لا يحتاج الانتقالَ جسديا كي يرى، أو لكي يتحسّس نبض العالم ويسمع أنينه، يشهد على جماله القاتل بقدر ما هو محيٍ للروح. لا خلاص إلا بقول الحقائق، بالنظر إلى الأمام، بصعود السلّم المعرفي والتأرجح فوق حبال اللغات، بالترجمة، بفتح النصّ كائنا ما كان على التأويل، وبتدجين الموت الفردي والجماعي العام. "لا أدري لماذا لم يغادر الشعراءُ بعدُ مع الطيور المغادِرة؟" يتساءل عيسى مخلوف، في العبارة الأخيرة من ديوانه "ما سوف يبقى"، ثم يضيف ردّا على سؤال خضيّر حول هوية جموع الهاربين في الديوان: "هم الذين ولدتهم أمهاتهم تحت نجوم مطفأة ولم يجدوا، حيث وُلدوا، أمكنةً تؤويهم. الهاربون من أنظمة الاستبداد وأهوال الحروب والجوع".
أجل، ينطق عيسى مخلوف، بفعل أسئلة محاورِه المحفّزة، بما يثقل صدورنا. يلهج بعجزنا، بؤسنا. يرسم بورتريه أمينا لسيرة عالمنا، لما يجري فيه، لأفوله الثقافي السافر وشبه غرقه الحتميّ، فيتحوّل قوله إلى قوةٍ ممغنطةٍ تجمع هواجسنا وتساؤلاتنا وملاحظاتنا حول ما يؤول إليه ذلك الجزء البائس حيث نحيا. من نحن؟ جرحى الكلام المراوغ، مصابو حرائق سوء الفهم، أبناء تزاوج الفنّ والمال والعلم المتقدّم على حبل الهاوية، ضحايا هذا "المناخ القياميّ"، حيث لا خلاص ربما إلا بعبور بوابة الحبّ والجمال.