غايات حكومة الدبيبة تبرّر وسائلها
لا يزال لقاء وزيرة الخارجية الليبية (المُقالة)، نجلاء المنقوش، مع نظيرها الإسرائيلي، إيلي كوهين، في روما قبل أيام، يلقي بظلاله على المشهد السياسي في ليبيا، على الرغم من محاولات الحكومة التعويل على عاملي الوقت والقبضة الأمنية لتخفيف حدّة ردات الفعل التي شهدتها معظم المدن الليبية، وبصورةٍ ربما تجاوزت معظم التوقّعات. وقد راهنت الحكومة على أن ذلك مجرّد موجة تنحني لها، فتمرّ مثلما مرّت سابقاتها، على غرار ما حدث في تسليم المواطن الليبي، أبو عجيلة المريمي، للولايات المتحدة، والذي أدّى إلى ردات فعل غاضبة في حينه، ثم بمرور الوقت ومنع التظاهر خفّت حدّة الانتقادات إلى أن تلاشت، كما ساهم بروز ملفات أخرى على السطح في نسيان تلك القضية، لتتحوّل إلى قضيةٍ عائلية، بعد أن كانت قضية رأي عام. بيد أن الأمر في قضية نجلاء المنقوش كان مختلفا عما سبقه، فعلى الرغم من مرور أكثر من أسبوع على ذلك التسريب الذي فضح لقاء روما الذي جرى بترتيب الإدارة الأميركية، ومحاولة الحكومة الدفع بملفات أخرى، تستأثر في العادة باهتمام المواطن في ليبيا، علها تساهم في تخفيف الضغط عليه وعلى حكومته، فعلى سبيل المثال، سارعت وزارة الشؤون الاجتماعية في إحالة منحة الزوجة والأبناء إلى المصارف التجارية العاملة، تلك المنحة التي تعتمد عليها عائلاتٌ كثيرة في مساعدتها على تحمّل نفقاتها المعيشية، خصوصا في هذه الظروف التي تشهد عودة الأبناء إلى مدارسهم، وما يترتب على ذلك من مصاريف تستنزف الدخول المالية والرواتب التي لم تعد كافيةً لتأمين المستلزمات الأساسية لهذه الأسر. كما استبقت الحكومة الموعد الذي حدّده أعضاء هيئة التدريس الجامعي والمعيدون في الجامعات للتظاهر ضد فساد الابتعاث للدراسة في الخارج، الملفّ الذي تورّط فيه مسؤولون كثيرون من خلال إحالتها لتوجيهات النائب العام التي قضت بحبس وإعفاء بعض مديري وزارة التعليم العالي.
على الرغم من كل هذه المحاولات، إلا أن ملفّ التطبيع مع إسرائيل لا يزال حديث الشارع الغاضب، خصوصا بعد التخبّط الملحوظ في معالجته، حيث اعتقد الدبيبة، في البداية، أن مجرّد زيارة السفارة الفلسطينية في طرابلس، والتقاط الصور مع موظفيها وتوشّحه بالكوفية، وتزيين أبراج ذات العماد في وسط العاصمة طرابلس بالعلم الفلسطيني يمكن أن يقنع الشارع الليبي بأن ما جرى لم يكن بعلمه وموافقته، وأن زيارة وزير العمل، علي العابد، التي سبقت لقاء روما، والتي حرص فيها على التقاط صور في المسجد الأقصى في القدس مرتديا الزي الليبي، لم تكن بالتنسيق مع الحكومة الإسرائيلية التي تسيطر على كل المعابر التي تربط فلسطين بالعالم الخارجي، وان التسريبات الصحافية عن عدّة اجتماعات سرّية جرت بين حكومة الدبيبة ومسؤولين من حكومة العدو الإسرائيلي والمفاوضات السرّية التي تناولت تعويض اليهود الليبيين الذين غادروا ليبيا عامي 1948 و1967 ما هي إلا إشاعات تحاول النيل من حكومة الوحدة الوطنية ورموزها!
منذ استلام حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا برئاسة الدبيبة مهامّها، فشلت في الإيفاء بالتزاماتها، وعجزت عن حلّ مشكلاتٍ تفاقمت
وفي السياق نفسه، وعلى الرغم من انقضاء مهلة الأيام الثلاثة التي حدّدها الدبيبة في قراره إيقاف نجلاء المنقوش عن العمل احتياطيا، وإحالتها إلى التحقيق، والذي يتم، حسب مصادر مطلعة، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصا واتس أب، بعد أن غادرت الوزيرة البلاد على متن طائرة خاصة، إلا أن اللجنة لم تعلن بعد عن نتائج تحقيقها، ما يؤكّد اعتماد الحكومة على التسويف في الإعلان عن نتائج هذه التحقيقات، على أمل تناسي الموضوع برمته أو تمييعه بعد فترة، لتصبح الحكومة أكثر قدرة على امتصاص غضب المواطنين، وسط تسريباتٍ غير مؤكّدة من الاتجاه إلى تبرئة المنقوش، واعتبار ذلك لقاء عابرا تم من دون تنسيق مسبق ومن دون علم الحكومة.
وجدير بالذكر أنه منذ استلام حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الدبيبة مهامّها التي تعهّدت فيها بتأمين انتخاباتٍ طال انتظارها من جميع الليبيين، علّها تكون طوق النجاة للخروج من الأزمة التي تعيشها البلاد منذ أكثر من عقد، فشلت في الإيفاء بالتزاماتها، وعجزت عن حلّ مشكلاتٍ تفاقمت، واكتفت بفرض سيطرتها على عدة كيلومتراتٍ تشمل المصرف المركزي الذي موّل عملياتها، وساهم في بقائها في السلطة كل هذه المدّة، وأصبحت هذه الحكومة معروفة لدى الجميع ببراغماتيّتها للبقاء في السلطة، فكرّر رئيسها، في أكثر من مناسبة، تمسّكه بالسلطة وعدم تسليمها، إلا إلى حكومةٍ منتخبةٍ، وهو قبل غيره يعرف أنه لا يمكن الوصول إلى انتخاباتٍ وفق الظروف الراهنة، لا سيما أن الأطراف السياسية، وهو أحدها بل أهمها، لا تزال عاجزة عن الاتفاق على قوانين وقاعدة دستورية يمكن أن تنظم هذه الانتخابات. كما رضخت هذه الحكومة لابتزاز المليشيات، فدفعت المليارات من المال العام الذي أصبح إهداره أمرا لا يثير أي استغراب، من أجل شراء ولائها لضمان غاية واحدة، بقاء هذه الحكومة في السلطة والاستمرار في الحكم.
قدّمت حكومة الدبيبة ما يمكن تقديمه من أجل ضمان الدعم الخارجي الذي تعرف جيدا أنه الطريق الأهم، إن لم يكن الوحيد الذي يجعلها تستمرّ في سدة الحكم
كما في الداخل، هو حال الحكومة في علاقاتها الخارجية، فقدّمت ما يمكن تقديمه من أجل ضمان الدعم الخارجي الذي تعرف جيدا أنه الطريق الأهم، إن لم يكن الوحيد الذي يجعلها تستمرّ في سدة الحكم. ومن أجل ذلك، وقّعت اتفاقيات كثيرة مع دولٍ عديدة، مخالفة بذلك القوانين التي تمنع ذلك، كونها حكومة مؤقتة. ووافقت على امتيازاتٍ كثيرة لدول ترى أن لها القدرة على لعب دور أساسي في المسألة الليبية، وسهلت لدول عدة إقامة قواعد عسكرية على الأراضي الليبية. وبحسب تقارير، وافقت حكومة الدبيبة على البدء في مباحثاتٍ تهدف إلى توطين المهاجرين في الجنوب الليبي، رغم نفيها ذلك في أكثر من مناسبة. أما سعيُها إلى إرضاء أميركا وحكومتها، فذلك لا يحتاج إلى مجهود لمعرفته وإدراك تشعباته وخفاياه. ويكفي في الاستدلال على ذلك تسليم مواطن ليبي، رغم اعتراض النائب العام والجهات القضائية على ذلك، باعتباره مخالفا القوانين المحلية.
المحصلة أن حكومة الدبيبة لا تخفي رغبتها باستمرارها في الحكم. وترى كل وسيلة قد تقرّبها من ذلك مشروعة، ولقاء الصهاينة ليس استثناء، خصوصا أنه جاء بطلب أميركي، وهي بذلك لا تنتهج أسلوبا جديدا، بل تقلّد غيرها الذي كان سبّاقا إلى ذلك، ليقينهم جميعا بأن رضا أميركا يمر من البوابة الإسرائيلية، رضا سيعزّز مكانة هذه الحكومة، ويطيل بقاءها على كرسي يتنافس كثيرون عليه بطرق عديدة، منها التطبيع مع العدو.