غزّة... التفاوض على الحياة
في سجنٍ مغلق الحدود والمعابر، يواجه الفلسطينيون في قطاع غزّة مصير الموت جوعاً، اذ أنتجت عقيدة الترويع والصدمة التي مثلت استراتيجية الكيان الإسرائيلي لإيجاد أرض غير صالحة للحياة وضعا كارثيا في القطاع إنسانيا، واقتصاديا واجتماعيا، فيما مثلت إدارته المأساة الإنسانية المترتّبة على عدوانه الهمجي جريمة حرب تُضاف إلى سجله في الإبادة الجماعية، إذ حوّل الكيان الإسرائيلي حقّ الفلسطينيين المشروع، والذي تكفله القوانين الدولية بالحصول على المساعدات المنقذة للحياة إلى فعل تفاوضي وورقة مساومة تخضع لاشتراطاته وإدارته للحرب.
كنظام استعماري اعتمد على عملية الضم والإخضاع، فلا خطوط حمراء بالنسبة للنظام الإسرائيلي، إذ تتواءم سياسة احتلال الأرض وقتل السكان وتهجيرهم من أرضهم مع سياسة العقاب الجماعي من انتهاك الحقوق الآدمية والفصل العنصري والاعتقال إلى توسيع بناء المستوطنات. ومع أن الكيان الإسرائيلي استطاع حجب جرائمه المروّعة في حروبه التي خاضها سبعة عقود ضد الفلسطينيين، فإن حربه الحالية على قطاع غزّة لم تكشف فقط حجم الإبادة الجماعية، بل وسائله في إدارة القتل وإنزال أقسى أنواع العقاب في حقّ الفلسطينيين، إذ هدفت العملية العسكرية الإسرائيلية لفرض سياسة الأرض المحروقة، من مضاعفة المجازر اليومية التي تطاول المدنيين، ووصلت في شهرها الخامس الى قتل أكثر من ثلاثين ألف فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، إلى تدمير البنية العمرانية والتحتية في قطاع غزّة، والتي قوّضت البنية المؤسّسة للحياة، وعطّلت المرافق الصحية، الأمر الذي ضاعف أعداد الوفيات.
عمد الكيان الإسرائيلي إلى استهداف المنظمّات الإنسانية التي كانت توفّر الحد الأدنى من المساعدة المنقذة للحياة للفلسطينيين
ومن جهة ثانية، عمد الكيان الإسرائيلي إلى استهداف وسائل المعيشة بحدّها الأدنى التي تتعدّى ضرب الاقتصاد المحلي الهشّ إلى إغلاق المعابر التي تتحكّم إسرائيل بحركتها من دخول البضائع إلى حركة تنقّل المواطنين، إلى جانب فرض حصارين، برّي وبحري خانقين، فيما أسفرت عملياته العسكرية في شمال القطاع وجنوبه إلى تدمير كل فرص الحياة أمام الفلسطينيين، وأدّت إلى موجات نزوح جماعية إلى جنوب القطاع أحدثت وضعا مأساويا، على المستويين، المعيشي والصحّي، سواء في جنوب القطاع أو في شماله، إذ يعيش المواطنون في خيام ويعانون ظروفا لا إنسانية، إلى جانب الجوع وانتشار الأوبئة.
يضاف إلى هذا، عمد الكيان الإسرائيلي إلى استهداف المنظمّات الإنسانية التي كانت توفّر الحد الأدنى من المساعدة المنقذة للحياة للفلسطينيين، حيث شنّ حملة على وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينين (أونروا) بهدف وقف أعمالها الإغاثية بشكل دائم، باتهامات كيدية، أدّت إلى وقف حلفائه التمويلات المالية لتشغيل الوكالة، وفي مقابل سياسة التجويع والحصار، فقد أدار الكيان الإسرائيلي الأزمة الإنسانية في قطاع غزة، بتحويلها إلى ورقة سياسية تفاوضية، أي ورقة مساومة، وذلك باشتراط تسهيل دخول المساعدات بإنجاز صفقة تبادل الرهائن مع حركة حماس، أي نزع المعاناة الإنسانية في غزة من سياقها الإنساني وجعلها رهنا بمسار المفاوضات وتعقيداتها، مقابل غياب أي ضمانة لوقفه الحرب، وإذا كانت مجزرة "الطحين" في دوار النابلسي (29/2/2024) قد كشفت جرمية الكيان الإسرائيلي بقتله أكثر من مائة فلسطيني تجمّعوا للحصول على المساعدات الإنسانية، فإن الجريمة لم توقظ ضمير المجتمع الدولي في إدانة إسرائيل على جرائمها، بل قايض كالعادة حقّ الضحية في الحياة بما يريده الجلاد.
لا تختلف السياسات الإنسانية حيال مأساة غزّة بين شركاء إسرائيل وحلفائها الغربيين وبين الدول العربية
إذا كانت تراتبية الإجرام في حقّ الفلسطينيين، بما في ذلك المسؤولية السياسية والأخلاقية تجعل من الكيان الإسرائيلي المحتل مجرم حربٍ من الدرجة الأولى وبلا منازع، فإن حلفاء إسرائيل وشركائها الغربيين والإقليميين يتحمّلون المسؤولية نفسها، من دعم الكيان الإسرائيلي إلى تسييس الحالة الإنسانية في قطاع غزّة وجعلها ورقة تفاوضية، والتي تعني منح إسرائيل الحقّ في تقرير حياة الفلسطينيين وموتهم أيضاً، تتنوّع أشكال الدعم الأميركي الذي قدّمه لحليفه الإسرائيلي، من الدعم السياسي والمالي إلى العسكري، حيث موّلت الإدارة الأميركية جيش الاحتلال بوسائل القتل من القنابل إلى الصواريخ والطائرات والتي وصلت إلى أكثر من مائة صفقة عسكرية سرّية منذ بدء حربه على غزّة، والتي تعني مشاركتها في الإبادة الجماعية، إلا أن إدارتها الشقّ الإنساني تمثل جريمة أخرى، ففي حين منعت الإدارة الأميركية وقف الحرب في غزّة وبشكل فوري لدواعٍ إنسانية، فإنها أيدت إجراءات النظام الإسرائيلي باستمرار إغلاق المعابر، أي الشرعنة لتجويع الفلسطينيين، وإن أعلنت، أخيراً، رغبتها بفتح ممرّ بحري، وذلك لامتصاص غضب الرأي العام العالمي من ضلوعها في الإبادة الجماعية في غزّة، خصوصاً بعد مجزرة دوار النابلسي التي سبّبت إحراجا للإدارة الأميركية، بيد أن لا تنفيذ عملية إنزال جوّي للمساعدات في القطاع ولا إعلانها فتح ممرٍّ بحريٍّ يعني تغيير السياسة الأميركية حيال الحرب في غزّة، أو إدراكها كلفتها الإنسانية، فإضافة إلى وقف الإدارة الأميركية تمويل "أونروا"، استجابة للمطالب الإسرائيلية، فقد أفشلت بياناً لمجلس الأمن يدين إسرائيل في حادثة مجزرة دوّار النابلسي. ومن جهة ثانية، استمرّت الإدارة الأميركية في تسييس العملية الإنسانية في غزّة، إلى جانب تقديم مشروع لمجلس الأمن لوقف إطلاق النار ثلاثة أسابيع، يؤدّي إلى تحرير الرهائن في المقام الأول وليس وقف الحرب في غزّة، إضافة إلى تحميل حركة حماس مسؤولية عدم توقيع الهدنة. ومن ثم، تدرك الإدارة الأميركية قبل غيرها أن صفقة تحرير الرهائن، جرى التوقيع عليها أم لا، لا تعني وقف الحرب، إضافة إلى عدم قدرتها في الضغط على حليفها، ومن ثم ستمضي في تأييد سياسته المقبلة كالعادة، التي قد تعني استمرار الحرب، وإغلاق المعابر وتحكّم إسرائيل بالعملية الإنسانية. وفي المقابل، تتماثل استراتيجية التدخّلات الأوروبية في إدارة الكارثة الإنسانية في قطاع غزّة مع السياسة الأميركية، من تجاهل مسؤولية الكيان الإسرائيلي عن الوضع المتفاقم واللاإنساني الذي يعيشه الفلسطينيون، إلى إيقاف المفوضية الأوروبية تمويل "أونروا"، وربطه باشتراطاتٍ تلبّي المطالب الاسرائيلية، إضافة إلى ربط دخول المساعدات الإنسانية المنقذة للحياة في غزّة بالتفاوض حول تحرير الرهائن، والتي تعني ليس فقط إخضاع تحسين الواقع الإنساني القاهر بالسياسي، بل جعله مرهوناً بالقرار الإسرائيلي الطرف المنتهك والمسؤول عن قتل الفلسطينيين وتجويعهم واحتلال أرضهم.
قايضت السعودية ملف تطبيعها مع إسرائيل بوقف الحرب في غزّة وبإعادة إعمارها
لا تختلف السياسات الإنسانية حيال مأساة غزّة بين شركاء إسرائيل وحلفائها الغربيين وبين الدول العربية، فمع تمايزات الموقف الرسمي من دولة إلى أخرى، على صعيد الشجب والإدانة، تتحمّل الدول المؤثرة اقتصاديا أو دبلوماسياً مسؤولية الوضع الكارثي الذي يعيشه الفلسطينيون في القطاع، فمع محدودية فاعليتها في التأثير على القرار الإسرائيلي بوقف الحرب، تمتلك الدول الغنية، وأيضا دول الطوق أوراقاً متعدّدة لوقف الإبادة الجماعية في قطاع غزّة، ليس بالطبع تقديم الدعم العسكري لحركة حماس، لكن على الأقل التعاطي مع المسألة الإنسانية بمسؤولية، سواء بالضغط على حلفائها الغربيين لفتح المعابر وإدخال المساعدات بلا شروط، وعدم إخضاعها لصفقة تحرير الرهائن، إلا أن المُفجع ليس فقط حالة الخذلان، بل تواطؤ معظم الدول العربية المؤثّرة مع الكيان الإسرائيلي في إبادة الفلسطينيين بهدف اجتثاث "حماس"، أي تقويض أيٍّ من أشكال المقاومة ضد إسرائيل مستقبلاً، ومن ثم المساهمة في فرض أمر واقع جديد في قطاع غزّة، مقابل دعم إسرائيل. ففي ظل استمرار الأزمة الإنسانية التي يعانيها الفلسطينيون في غزّة عملت دولٌ على تدفق البضائع إلى إسرائيل من خلال طريق برّي يمر بأراضيها وذلك بعد هجمات جماعة الحوثي على سفن إسرائيل في البحر الأحمر. ومن جهة ثانية، أدارت دول الطوق الرئيسية، كمصر، أزمة المعابر من منطلق حماية أمنها القومي في المقام الأول، وقايضت السعودية ملف تطبيعها مع إسرائيل بوقف الحرب في غزّة وبإعادة إعمارها، فيما تراهن الدول المؤثرة على إنجاز صفقة تحرير الرهائن لدخول المساعدات إلى غزّة، وذلك لرفع الحرج السياسي عنها.
في غزّة وحدها، تتشابه شروط البقاء على قيد الحياة مع القتل، حيث تصبح الإبادة والتهجير والتجويع والاذلال وانتهاك الكرامة سردية الحياة اليومية لأبناء الأرض، فيما يتحوّل حقهم في الحياة إلى تفاوض، ما بين الأقوى والأضعف، ما بين الغاصب وصاحب الأرض، وإذا كان لا منطق في الحروب عموماً، فإن منطق حرب غزّة هو انتصار عصابة الضباع وحلفائهم.