غصّة الإعجاب
أدارت فعاليّاتُ افتتاح أولمبياد باريس 2024 أعناق مئات الملايين في العالم، بما فيها أعناقنا. وها هي الألعاب البارالمبيّة تفعل الشيء نفسه. لكنّنا لم نعشها ولم نحلّق معها كما فعل غيرنا. ظلّت عيوننا مشدودة إلى غزّة، وإلى الضفّة الغربية، وإلى جنوب لبنان، وإلى اليمن، وإلى مدننا وقرانا المنكوبة، وإلى كلّ المناطق المثخنة حروباً ومظالم. ونحن ننظر إلى هنا وهناك، وقد حاصرتنا الصور المتناقضة من وراء رمالها المتحرّكة، فإذا نحن لا نملك حريّة الإعجاب والدهشة التي كانت تصحبُنا ونحن نلعب في مسارح الطفولة. الإعجاب الذي أرمي إليه هو ذاك المجانيّ المنساب مرتاحُ الضمير. المعتمِدُ في ذاتيّتِهِ على أسبابٍ فنيّة خالصة. ناجمة عن النصّ في الأدب. نابعة من الفعل في الميدان. بعيداً عن سيرةِ الكاتب أو الفاعل وانتمائهما. هل يمكن فعلاً تحقُّقُ هذا النوع من الإعجاب؟ ثمّة طعمٌ آثم لكلّ متعة في مكانٍ مرفّهٍ نسبيّاً بينما العالم يدمّره الفقر والظلم والجوع. ثمّة غصّةٌ في حلق كلّ إعجاب بمنجزٍ بشريّ في مكانٍ آمنٍ نسبيّاً، بينما بشرٌ تبيدهم الحرب في مكان آخر. إخزاءٌ لطعم الفرح كأنّك تحيي عرساً جنب حدادٍ. لا فرق إن كان الحداد في أوكرانيا أو السودان، فماذا إذا كان في غزّة، مع وابل الصور التي تتهاطل وتوثّق في كلّ لحظة سقوط الحضارة المدوّي وموت إنسانيّة الإنسان.
كانت أولمبياد طوكيو 2020 بسبب الكوفيد أولمبياد الحصر والأماكن المغلقة، فجاءت أولمبياد باريس على العكس، أولمبياد الفضاءات الخارجيّة وحمّامات الجماهير. هكذا تابعنا مَشاهدَ توماس جولي وهو يحاول إقناعنا بأنّ "فرنسا الأنوار" لم تستسلم للوحش! وبأنّها جائعة إلى الآخر، وأنّها تسعى إلى الائتلاف بالاختلاف، وأنّها وقفت على حافّة هاوية التناحر والأحقاد. لذلك سعت، في هذه الأولمبياد، إلى تبادل رسائل المحبّة والتسامح. بدت فرنسا، ومن خلالها العالم الغربيّ من خلال تلك المشاهد، أمَماً تتداعى إلى السلام. وعبثاً، بحثنا عن رسالة تمنح آلاف الأطفال الغزّيّين فرصة، ولو أولمبيّة، كي يتنفّسوا قليلاً ويتذكّروا الضحك واللعب ويستمتعوا بالفرجة. لذلك لم يكن من السهل أن نصدّق سردية الألعاب، وهي توزّع رسائل القيم الإنسانيّة النبيلة. كيف نستطيع أن تصدّق تلك السردية، وأن نعجبَ بكلّ تلك الرسائل، بينما الواقع السياسي والميداني يكذّبها في كلّ لحظة؟
فازت فرنسا سنة 2000 بدورة كأس أوروبا للأمم. بدا ذلك الفوز مستحقّاً، بالنظر إلى أنّ إيطاليا لم تسع، في أغلب مقابلاتها، إلى تحقيق الانتصار بقدر ما عوّلت على انتظار هزيمة المنافس. آلت النتيجة إلى فوز الفعل على نقيض الفعل. هكذا يحبّ عُشّاق "الفوتبول" هذه اللعبة إذا كانوا هكذا يحبّون الحياة. كتب رشاد أبو شاور يومها أنّه رغب في أن يفوز المنتخب الإيطالي بتلك المباراة، لأنّ عواطفه مع المنتخب الإيطالي "توثّقت عندما كنّا نخوض معركة بيروت 1982 ونتصدّى للعدوان الصهيونيّ على لبنان العريق... وبكلّ فروسيّةٍ، أهدى الفريقُ الإيطاليّ كأسَ البطولة لفلسطين وشعبها مدّة يوم، وقد وضع الكأس في ممثّليّة فلسطين بروما...". لم يستطع الكاتب العربيّ أن يفصل بين تاريخه شغوفاً بالفنّ وتاريخه حيواناً سياسيّاً. وأغلب الظنّ أنّ المسألة أعمق من "الغرائز السياسيّة". إنّها مسألة انحياز ضروريّ إلى "إنسانيّة الإنسان". ذاك ما جعلني أنظر إلى أولمبياد باريس وألعابها البارالمبيّة بطريقة جانبيّة تمتحن المشهد بزواياه الخفيّة. لقد مرّت غزّة من هناك. كيف تَقبل باريسُ الأنوار أن يرفرف العلمُ الصهيونيّ في سمائها بعد غزّة؟
ثمّة أسئلة تُطرح من دون أن تنتظر إجابة، مثل غصّةٍ من القهر، غصّةٍ في حلق كلّ لحظةٍ من إعجاب. كنت أتشوّف إلى هناك وأنا أترنّح تحت وابل الصور من الأولمبياد، محاولاً أن أقنع نفسي بأنّي إنسانٌ يضحك حتى عند رأس الميت من دون أن ينسى، ومن دون أن يهرب. هل يخفّف هذا التمشّي من أصوات الأنين المتصاعدة من ساحات الحرب؟ هل يمسح عن عينيّ ما تراكم فيهما من دخان الحرائق؟ هل يخفّف من طعم الإثم الذي يغلب على متعتي بالفُرجة في مثل هذه الأيّام المترعة بالتراجيديا، أم أظلّ على هذا النوع المخصوص من الإعجاب، ما إن تحرّكه غريزة الإنسان الطفوليّة، حتّى تنهال عليه أنقاض القيم وتطوّح به عواصف الظلم والقهر والكيْل بمكياليْن فتغلبه الغصّة؟