غياب مشروع حزب الله السياسي مشروع هيمنة
عادت نغمة الكلام عن محاولة حزب الله السيطرة على مجمل مفاصل الدولة اللبنانية، انطلاقًا من الكشف المزعوم عن محاولة انقلاب على رئيس شعبة المعلومات، وسعي الحزب إلى إيصال ضابط آخر قائدا لقوى الأمن الداخلي يدور في فلكه. ما يوحي وكأن الحزب لم يسيطر على الدولة بعد، وأن الأمر بمثابة اكتشاف جديد سيلقي بظلاله على الحالة السياسية في البلد. وبمجرّد وصول شخص قريب من الحزب، أو يدور في فلكه، إلى رأس جهاز الأمن الداخلي، سيشهد اللبنانيون هيمنة تامة للحزب، متناسين أن الأخير هيمن على الدولة بالتمام والكمال، حين استخدم القوة وفرض الشروط التي يريدها في المعادلة السياسية، وأن منصبا من هنا أو من هناك لم يعد يقدّم ولا يؤخّر في المعادلة كثيرًا.
هذه هي القراءة "المنطقية" للأحداث في دولة طائفية لطالما تمثّلت شهوة أي طرف فيها بالسعي إلى الهيمنة عليها، فما هو مستغرب ومدهش هو استغراب واندهاش بعض المناوئين للحزب في قراءتهم الحدث من خارج سياق الأحداث التي تؤكد، وبأكملها، على سيطرة الحزب التامة. وهو ما يكشف عقم قراءة بعض هذه الجماعات، خصوصًا من ينبني الرأي السياسي عندهم على قراءة تعزل الأحداث عن سياقاتها، فتنتهي عادة بتصوير أن هذا المنصب أو هذا الحدث يمكنه أن يقلب المعادلة، ويمكنه بالتالي أن يمنع أي حزبٍ أو طرفٍ من السيطرة على كل شيء.
ففي عالم المقارعات التي لا تغني ولا تسمن من جوع، واعتدنا في لبنان على كثرتها، تصبح المحاولات المستمرّة لبناء بطولات وهمية الشغل الشاغل، ليس بهدف مقارعة حزب الله بوصفه محور القوة ومصدرها في العلاقات داخل نظام ودولة مأزومين، بل بهدف توظيف المواجهة المزعومة مع الحزب لتبرير هيمنة الأطراف السلطوية المناوئة للحزب على مناصب الدولة. وكأن هيمنة حزب الله يعيقها توظيف أطراف غير محسوبين على الحزب بالمباشر، وكأن الحزب يعصى عليه التلطّي خلف شخصيات وأطراف غير محسوبة عليه لكي تتلقى عنه في المباشر ما يحكمه هو في غير المباشر.
يدرك حزب الله أنه غير مجبور على الإتيان بأحدٍ إلى مواقع المسؤولية، لأنه يتموضع في خطوة أسبق على ذلك كله
هنا بيت القصيد وهنا لعبة الألعاب، أن يحكم حزب الله بالمواربة، إن كان لهذه المواربة من معنى بعد غزوة 7 مايو/ أيار 2008. لقد أصبح من المنطقي افتراض أن الحزب يعلم قلّة جدوى إدارته المباشرة للبلاد بعد كم التجارب الفاشلة التي خاضها، بل بات منطقيًا معرفته لا جدوى الهيمنة المباشرة والظاهرة واضطراره لحمل كرة النار وأخذ الانهيار على عاتقه. فالحزب تخطّى مرحلة اضطراره إلى توظيف حلفاء مقرّبين منه في المناصب الحساسة، ولو تظاهر بذلك، وقد وصل إلى مرحلة من الهيمنة تخوّله التعامل بأريحية مع وصول أخصام افتراضيين يديرون ما لم يستطع هو إدارته، فيكون في خضم حكم وهيمنة على البلاد من دون الحرج في وضع مشروع وفي إدارة البلاد والهيمنة عليها بشكل مباشر. ألم يدوّر المرشح جهاد أزعور الزوايا مع حزب الله قبل ساعات من الجولة 12 لانتخاب رئيس للجمهورية، في حين كان الفريق الذي يرشّح أزعور يصر على إظهارها معركة كسر هيمنة حزب الله وعنجهيّته؟
هذا الحكم من دون مشروع حكم، وهذه الهيمنة من دون مشروع هيمنة، هي القوة الفتّاكة التي يملكها حزب الله في شبكة علاقاته مع الآخرين، والتي يدير البلاد بها. فما دام يمتلك مستشفاه وجامعته واقتصاده الموازي وأجهزته وجيشه وخارجيته ... إلخ، سيكون غير مهتم ولا يشعر بالحرج إن دارت عجلة المؤسّسات في الدولة اللبنانية وتم العمل بالدستور والقوانين. بل على العكس تمامًا، بات الحزب في مرحلة إدارة الدولة وحكمها بدون الحاجة لا إلى إدارته لها ولا إلى حكمه عليها، بمعنى أنه يديرها بفراغ سياسي وإداري وقانوني ودستوري، فالفراغ يخدمه أكثر مما يخدمه سليمان فرنجية، على سبيل المثال، والفراغ يخدمه أكثر مما تخدمه شخصية مقرّبة منه على رأس جهاز أمني، مهما كان اسمها.
يحكم حزب الله البلد بخوف الآخرين منه، في حين أن الآخرين يلاحقونه على ما تخطاه وبات خلفه منذ مدة
هذه الهيمنة للفراغ التي لا يتلكّأ حزب الله عن الاستفادة منها وتوظيفها، هي ما يراهن عليه في كل شيء، لذا تراه يقاتل بهذا الطرف والحليف أو ذاك ببراغماتية استثنائية، وهو يدرك أنه غير مجبور على الإتيان بأحدٍ إلى مواقع المسؤولية، لأنه يتموضع في خطوة أسبق على ذلك كله، ولا يتنبّه معظم أخصامه إليها، وهي أن مشروعه للحكم يقوم على غياب المشروع، وهو حليف كل غياب مشروع وتخطيط في الدولة اللبنانية وبها، فهو يحكم البلد بخوف الآخرين منه، في حين أن الآخرين يلاحقونه على ما تخطاه وبات خلفه منذ مدة. هم يحاربون ويستبسلون في قتاله في مجالٍ لم يعد يهمّه، لأنه لا يقدّم ولا يؤخّر في هيمنته، لذا تراه لا يتأثّر بهم، ولا حتى يقاومهم.
لعله بات من الضروري التفات أخصام حزب الله إلى أن الحزب اليوم فوق المشاريع السياسية وفوق المناصب، وهو ليس بحاجةٍ إلى خطط وسيناريوهات لكي يحقّق ما يريده، بل غياب الخطّة والسيناريو هو مصدر سلطانه. هو يقاتل الجميع انطلاقًا من هذه الأرضية، وينتصر على الجميع انطلاقًا من هذا الميدان. إنه يقاتل من دون الخوف على خسارة شيء، ومن دون الاستقتال في الحصول على أي شيء، خصوصًا أنه حاصلٌ على كل شيء سلفًا في ظل الشروط القائمة.