غير الطبيعي في التطبيع مع إسرائيل
من يقرأ إعلان اتفاق إبراهام، الموقّع بين إسرائيل والإمارات برعاية أميركية، الصادر أخيرا، يخيّل إليه أنه إعلان منبثق من مجلس ملائكة، يرْجم الشيطان بحجارة التفاهم والكرامة والحرية والحوار والتعاون والودّ والأمل والعلم والفن والطب والتجارة والسلام والأمن والازدهار. والأهم من كل تلك الأحجار "مستقبل أفضل لجميع الأطفال". وكلها عباراتٌ ومفرداتٌ ضجّ بها الاتفاق، يرحب به موقعوه، بـ"حفاوة". ويستنتجون منه بداهة "إقامة دبلوماسية بين إسرائيل وجيرانها في المنطقة بموجب هذا الاتفاق". إنها اتفاقية تطبيع مع إسرائيل. أي جعلها عادية، إدراجها في المألوف في العلاقات بين الدول.
ثمّة جوانب تبدو "طبيعية"، في ظاهر الأمر، فيما هي شحيحة، ضعيفة الحجّة. يُراد منها إكساب المبادرة وجاهة تفتقدها. فهي أولاً تُخرج العلاقة بين الطرفين، العربي والعبري، من حيز السرّي إلى العلني، فالسرّية لا تليق إلا بالعلاقات غير الشرعية، أو غير القانونية. تفيد ربما في بدايتها، ولكن تثميرها مع الوقت يحتاج إلى العلنية. مثل العلاقة الممنوعة بين عشاق غامضين، لا تستوي، في النهاية، إلا بالزواج. مسار يكاد يكون "إنسانيا"، من السرّي إلى العلني. إنه اتجاه واحد. إذ يصعب القيام بالعكس، أي تحويل العلني إلى سرّي. وهذه نقطة منطقية، يُثنى بفضلها على أصحاب المبادرة وحسن توقيتهم لإنهاء السرّية هذه.
تطبيع "منطقي" ثانياً. انظر إليها من زاوية الأجيال. سوف تتحقَّق بنفسك. الجيل الإماراتي المؤسِّس، بقيادة الشيخ زايد بن سلطان كان معروفاً بدعمه الفلسطينيين، مرتاحاً من حاجة الأميركيين إليه وإلى نظرائه. أما ولده محمد بن زايد، فهو من جيل كبُر على فكرة أخرى، على ضرورة كسب دعم البيت الأبيض ورئيسه، وإبقاء الانخراط الأميركي في الشرق الأوسط، بعدما صار مشروطاً. موت الحقوق الفلسطينية في وجدانهم ليس ناجماً عن فراغ. قد تكون التوازنات الجديدة، أو "روح العصر". وقد تراجعت خلالها هذه الحقوق إلى أدنى درجاتها. حتى في خطاب "داعميهم" من الدول. قد يكون الضجر من تكرار العبارات نفسها، على مسألةٍ لم يشاركوا فيها إلا بدفع الأموال. أو أن العداوة لم توصم حياتهم بالقتل والاحتلال والطرد من الأرض، فكان "طبيعياً" ان تُقام العلاقات بين دول لم يسقط مواطنوها ضحية بعضهم بعضا.
يهود إسرائيل يختلفون عن يهود أميركا حول العلاقة مع ترامب: الأولون يؤيدونه، والآخرون يؤيدون منافسه
"طبيعي" ثالثاً، أن يُراد من اتفاق أبراهام إنقاذ ثلاثة رجال، أو ثلاثة قادة لدول: الأول، الأميركي، دونالد ترامب، المهدَّد بخسارة كرسيه في البيت الأبيض، والباحث عن إنجازات في آخر لحظة لمسابقة غريمه جو بايدن في انتخاباتٍ انتهت أول من أمس (3 نوفمبر/ تشرين الثاني)، وقد لا تُحسم نتائجها باكراً. وإن حُسمت لصالح هذا الغريم، فسوف تكبّله الاتفاقية، على الأقل بعلاقته مع إسرائيل. علماً أن الحزب الديمقراطي الذي يمثله جو بايدن ليس أقل حبّاً لإسرائيل من الحزب الجمهوري. علماً أيضاً أن يهود إسرائيل يختلفون عن يهود أميركا حول العلاقة مع ترامب: الأولون يؤيدونه، والآخرون يؤيدون منافسه. الاتفاق ينقذ أيضا نتانياهو، وقد سُلِّط عليه سيف التحقيق القضائي في فضيحة فساد. حاول عبر ثلاث دورات انتخابية متقارِبة حماية نفسه منها، ولكنه أخفق بتأمين الأكثرية. وها هو الآن يرضي غالبية الإسرائيليين، واليمين الأكثر تطرّفاً منه، ومعهم ربما اليسار "المعتدل". ثم إنقاذ الثالث: الحاكم الإماراتي، وخلفه البحريني، من تهديدين: اقتصادي، نتيجة الوباء وغيره من العوامل، واستراتيجي، نتيجة تراكم العدوانية الإيرانية في الخليج، وفي غيره من بقع أمة العرب. وأيضاً، نتيجة احتدام الصراع مع تركيا في ليبيا وسورية. وكان جديد تعبيراته تهديد وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، الإمارات، بأن تركيا ستحاسبها "في المكان والزمان المناسِبين".
بعد الجوانب المغشوشة بـ"طبيعيتها"، ثمة أخرى غير "طبيعية" حقاً في اتفاق أبراهام هذا: الأول، تلك الخفّة المتناهية التي تعاملَ معها أصحابه، خارج النص الإبراهيمي، الملائكي، مع الفلسطينيين. كانت النقطة الغائبة عنه مثار سؤال، يتنقل بين الكلمات، وإنْ حجبته، قوامها: ماذا عن اتفاق سابق، "صفقة القرن"، الذي يعِد إسرائيل، من ضمن ما يعدها به، بالسماح لها في استكمال ضمّها أراضي الضفة الغربية. الإماراتي بن زايد رماها في طريقه: قال إنّ ثمن الاتفاقية موافقة إسرائيل على "وقف ضمّ" أجزاء كبيرة من الضفة الغربية. فيما الثاني نتانياهو قال: كلا، لم يلغ أبداً هذا البند، وإن ما يجري "مجرّد تجميد" الضمّ. .. كذلك ترامب، ومعه صهره جاريد كوشنير، عرّاب "صفقة القرن": ما سيحصل مجرّد "تجميد لخطة الضم".
غير الطبيعي أيضاً: إن الذين سعوا إلى هذه الخطوة لم يرفعوا السلاح يوماً بوجه بعضهم بعضا. لم يتقاتلوا ليأتوا اليوم ويحتفلوا بالتطبيع. قبلهم جرت اتفاقات سلام بين دول حاربت إسرائيل: مصر (1977) والأردن (1994) ومنظمة التحرير الفلسطينية بعد اتفاقية أوسلو (1993) بين إسحق رابين وياسر عرفات برعاية الأميركي بيل كلينتون. وقد عادت صحراء سيناء إلى مصر بموجب اتفاق السلام مع إسرائيل، وحصلت منظمة التحرير على جزء من الضفة الغربية وغزة، وسلطة بمؤسسات، وإن مبتورة. فيما الأردن نال إشرافا إداريا وتسهيلات، خفّفت عنه انسحاب إسرائيل لغير صالح تاجه. وكان لاتفاق السلام مع إسرائيل معنى السلام مقابل الأرض. أما اتفاق أبراهام فيكاد يخلو من مضمونه بعد شوْكة "تأجيل" أو "تجميد" أو "إلغاء" ضم الأراضي الفلسطينية. انتكاسة بالنسبة لاتفاقية السلام السابقة. "سلام مقابل سلام": بتراجعٍ فاضح عن أراض أعيدت إلى الفلسطينيين بموجب اتفاقية سلام سابقة.
طرف ديني بقيادة إسرائيل إقليمياً، وأميركا دولياً، ينشط عربٌ تحت قبّته. وطرف ديني آخر، ينافسه، ويناهضه، تركي إيراني
وفي أقل من ذلك حقوقاً: ينسف أيضاً أصحاب الاتفاق العرب المشروع الذي تقدّم به نظراؤهم من الملوك والرؤساء العرب منذ عقد ونصف (قمة 2002)، وقد وافقوا على مبادرة ولي العهد السعودي، في حينه، عبدالله بن عبد العزيز، أي الأرض مقابل السلام، وقد سميت "المبادرة العربية للسلام". توافقوا عليها في قمتهم تلك في بيروت. وهي تقترح سلاماً وتطبيعاً مع إسرائيل مقابل إتفاق على إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، مع عاصمتها القدس الشرقية. اليوم الجميع صفق لاتفاق أبراهام، بحماسة ظاهرية أو باطنية. أسرعهم، أكثرهم صراحة، كان السودان، المشهور بقمة اللاءات الثلاث (1969) "لا سلام ولا اعتراف ولا مفاوضات مع إسرائيل"، وقد انضم بسلاسة إلى "التطبيع" بعد حين من اتفاق أبراهام.
باستثناء الفلسطينيين الذين تستغل قضيتهم هنا أيضاً، ولكن بطريقةٍ معكوسة عن السابق، والتي يشعر الفلسطينيون بأنها مثل خنجر طُعنوا به من الخلف. ما عزّز استمرار مصادرة قضيتهم على يد إيران الملالي، ودخول تركيا في ناديها، وإنْ متأخرة. والاثنتان "استنكرتا" الاتفاقية، وسوف تعملان لاحقاً على تعبئة العالم "الإسلامي" ضدها. حسب ما تكسبه سياسياً و"شعبيا" وديبلوماسياً.
التسمية تستحضر المناخ التوراتي، المنبع الأول لقصص النبي إبراهيم. فتسجّل بذلك أسبقية الديانة اليهودية على المسيحية والإسلامية
الآن، تسمية الاتفاقية باسم مؤسس الأديان الثلاثة، النبي إبراهيم، لم تسم "اتفاق التوحيديين" (موحدو الله)، ولا "اتفاق أهل الكتاب". والاثنتان مُعتمدتان في الأدبيات الإسلامية والعربية للأديان الثلاثة. قيل إن وراء التسمية دونالد ترامب نفسه الذي أراد ربط اسمه بأبراهام لينكولن، موحّد أميركا بعد حربها الأهلية في أواسط القرن التاسع عشر. أي أن يترافق اسمه مع كبار رجالات تاريخ أميركا. ولكن، إسرائيل ربما هي أول من اقترحته. أو على الأقل وجدته كنزاً رمزياً ثميناً، فالتسمية تستحضر المناخ التوراتي، المنبع الأول لقصص النبي إبراهيم. فتسجَّل بذلك أسبقية الديانة اليهودية على المسيحية والإسلامية. تريد أن تقول إن "الصراع" السابق كان بين الأديان الثلاثة هذه. وإنه الآن ينتهي هذا الصراع بقيادة الأيقونة الدينية النبي إبراهيم. النبي الذي كان اليهود أول من صاغوا قصصه، وجارَتهم بعد ذلك الأديان المسيحية والإسلامية.
شبح "صراع الحضارات" يختفي هكذا، ليخلي الساحة لالتقاء بين الأديان الثلاثة، التقاء واسع وضيق في آن. واسع لأنه مفتوح على جنسيات وبلدان تتجاوز أصحاب الإتفاقية. وضيق، لأنه يلغي الحدود الوطنية والقومية لصالح هوياتٍ أصغر منها، أي الطائفية والعشائرية، فتكون الحرب، إذا حصلت، بين طرفين دينيين: طرف ديني بقيادة إسرائيل إقليمياً، وأميركا دولياً، ينشط عربٌ تحت قبّته. وطرف ديني آخر، ينافسه، ويناهضه، تركي إيراني، تحت قبّته مسلمون، ومعهم عرب. هكذا، تودّع الدولة والقومية لصالح ضباب من الإنتماءات. وتجري الحرب بينهم بمرتزقة عرب، يختلف نشاطهم وكيانهم ووجوهم بحسب اختلاف طبيعة المعارك الجارية بالقرب منهم أو أبعد قليلاً.