فإذا فسد الملح...
وقد قالت العرب قديماً "يا رجال العلم يا ملح البلد، من يُصلِحُ الملحَ إذا الملحُ فسد"، وقد جاء في آية من إنجيل متّى: "أنتم ملح الأرض، ولكن إن فسد الملح فبماذا يملّح، لا يصلُح بعدُ لشيء إلا لأن يُطرح خارجا ويُداس من الناس".. أجل هو الملح، هذي المادّة الرخيصة المتوفّرة دوما دونما أدنى جهد، والتي ما أن تغيب حتى تختلّ موازين الأطعمة والنكهات.
وللملح قصة طويلة، وفضائل عدّة، من أهمّها قدرته على الحفظ من التلف والفساد، لذا فإن فساده لأمر مهيب عظيم. هذا ما أدركه الناس منذ القدم بعد أن اكتشفوا الملح ومذاقَه الأول، منذ الطفولة المبكّرة، منذ ماء الدمع، وملوحة عرق الآباء المتعبين، وتلك المربّعات المملوءة بمياه البحر تُعرض للشمس كي تتبخّر فتنفصل تلك الحبيبات الصغيرة عن الرطوبة وتتجمّع بيضاء لامعة تحت الضوء. ملح الصخور، وملح الأرض، وملح الموائد، إذ يختلط بالخبز والزيت، ورائحة الملح واليود التي تدلّك على المتوسّط، والملوحة إذ تبلغ أقصاها مجسّدة في البحر الميت...
في كتابه الضخم الذي تحوّل "بست سيلر" عالميا وترجم إلى لغات عدة من بينها العربية تحت عنوان "الملح، تاريخ عالمي" (ترجمة تانيا ناجيا، دار الساقي، بيروت، 2005)، يذكُر كارل كورلانسكي الذي قالت عنه صحيفة نيويورك تايم بوك ريفيو إنه "وجد العالم في حبّة ملح"، إنه يستحيل على الجسم البشري أن يفيد من الأكسجين أو أن يقوم بنقل الإشارات العصبية أو بتحريك عضلاته، لولا وجود الملح (كلوريد الصوديوم)، وإن هناك أكثر من مائة استخدام للملح لا يُعرف عنها الكثير، وأكثر من عشرة آلاف طريقة لاستعماله صناعيا. أجل، لقد اكتشف الإنسان منذ نحو عشرة آلاف سنة أهمية الملح الكبرى ومقدرته على حفظ الأطعمة كالأسماك واللحوم من الفساد، ما أتاح إمكانية تخزينها ثم المتاجرة بها، فكان بذلك من أسس الحضارات، حيث اعتبر مادّة ثمينة تضاهي الذهب قيمة.
الصينيون أول من اكتشف كيفية إنتاج الملح وتصنيعه واستهلاكه على نطاق واسع، منذ ستة آلاف سنة، تبعهم في ذلك الآشوريون والحثيون الذين أضافوا إلى استعمالاته استخدامه سلاحا تدميريا يغطّون به الأراضي التي يحتلّونها، فيقضي على المزروعات، ويجعل الأرض من ثم محروقة غير صالحة للاستعمال. الفراعنة أيضا استخدموا الملح، وكانوا من أوائل من بادروا إلى حماية طرق تجارته، إذ كانوا يستوردون معظمه من ليبيا وتونس. وقد استعملوه لتطييب الطعام، وإنما أيضا مادّةً حافظة يملّحون بها السمك الذي كانوا يبادلونه الفينيقيين مقابل خشب الأرز وأصناف أخرى باهظة الثمن. وكان ملح النطرون يُستخدَم في تحنيط أثرياء المصريين القدماء، في حين يُستخدَم الملح العادي لتحنيط العامّة.
في أوروبا، عرفت النمسا وألمانيا بإنتاج الملح منذ نحو ألف عام قبل الميلاد، وما زالت مدن وبلدات عدّة هناك تحمل في أسمائها الأحرف الأولى من كلمة ملح، (سولز) في إشارة إلى تخصّصها في إنتاجه والمتاجرة به. أما بالنسبة للرومان، فقد كان جزءا أساسيا من اقتصاد الإمبراطورية، وقد شقّوا طرقا خاصة لتصديره في قوافل كانت تعدّ عشرات آلاف الجمال، أو لإيصاله إلى روما، وما زالت آثار ورش إنتاج الملح منتشرةً على طول شاطئ شبه الجزيرة الإيطالية، وهو ما أتاح، في المحصّلة، كسب الأموال لشنّ حروب وتوسيع النفوذ. هذا وقد أوردت مراجع أن كلمة "ساليري" (الراتب) مشتقّة من سالاريوم اللاتينية التي تشير إلى أن الجندي الروماني كان في بعض الأحيان يقبض معاشَه مِلحا.
المراجع التي اهتمّت بالتأريخ للملح وربطه بنشوء الحضارات عديدة، فإلى جانب كتاب كورلانسكي المذكور آنفا، هناك كتابان قيّمان آخران هما "الملح: بذرة حياة" و"هل ينمو الملح في الشمس" للمؤرخ الفرنسي بيير لاسلو الذي يركّز على أهمّية ضريبة الملح في العالم القديم، والدور المهم الذي لعبه في التوسّع الأوروبي...