فخّ العقيدة السياسية
أتاحت التهديدات التركية بتنفيذ عملية عسكرية برية ضد مواقع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في تل رفعت ومنبج وعين العرب، على خلفية الاعتراض التركي على التطلعات السياسية الكردية عامة، والكردية التركية خاصة، فرصة للكشف عن خلل في التصورات السياسية المعتمدة في مواجهة الاستحقاقات السياسية لدى الطرفين التركي والكردي، وعن ضرورة إعادة النظر ووضع تصوّرات بديلة على أسس مختلفة، لحمتها وسداها تصور مستقبلي يلمح كل مصالح دول المنطقة وشعوبها، ويؤسّس لحالة استقرار وازدهار شاملة، تنهي الخصومات المديدة التي فقدت جدواها في ضوء النتائج السلبية المدمّرة لهذه الخصومات وآليات إدارة الصراع والدوران في حلقة مفرغة استنزفت قدرات المنطقة، البشرية والمادّية، واستنفدت خيراتها.
لا تشكّل حالة التعدّد العرقي والقومي في تركيا حالة فريدة، فدول كثيرة تحتوي تعدّدا عرقيا وقوميا أكثر وأعقد؛ حيث المشكلة ليست في التعدّد، بل في السياسة المتّبعة للتعاطي معه وفي طبيعة النظرة إليه، أهي نظرةٌ منفتحةٌ مبنيةٌ على المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين، أم ضيقةٌ مبنيةٌ على التركّز حول ذات قومية وإنكار الحق في المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات على بقية أبناء الوطن الواحد من الأعراق والقوميات الأخرى، كما هو الحال في النظرة التركية إلى التعدّد داخلها التي تميزت بسلبية حادّة وإنكار ممنهج ومواجهة صلبة وعنيفة منذ قيام الجمهورية التركية، بدءا بالقواعد السياسية التي أقام الجنرال مصطفى كمال، الملقب بأتاتورك (أبو الأتراك)، عليها الجمهورية عند إعلانها في أكتوبر/ تشرين الأول 1923، بإعلائه العرق التركي، بلغ الإعلاء حد العنصرية (الجنس التركي أصل البشرية والحضارة بأسرها)، و(يا لسعادة من قال أنا تركي)، وعدم الاعتراف بالأعراق والأقوام الأخرى داخل حدود الدولة التركية الناشئة (26 جماعة عرقية وقومية)، والتفافه على التعدّد العرقي والقومي، باعتبار كل مسلم في الجمهورية "تركيا" وغير المسلم غير تركي، والاعتراف بوجود أقلياتٍ غير مسلمة؛ وتكريسه موقفه هذا بتعيين ممثلين عن الأقليات الدينية، نائبين أرثوذكسيين ونائب أرمني، باعتباره مسيحيا، في البرلمان الأول (1923)، ونائباً يهودياً في برلمان (1935- 1939)، وفق النظام المللي العثماني. وقد تجسّدت النزعة الإقصائية في القمع العنيف لكل محاولات التعبير عن الذات القومية المختلفة، ولكل مطالبة بحقوق قومية، صغيرة أو كبيرة، والذي أصاب الكُرد بشكل خاص، ردّا على سعيهم إلى تحقيق ذاتهم القومية عبر ثوراتهم المتتالية التي جعلتها كتلتهم الكبيرة وتجمعهم الجغرافي ممكنة ومؤثرة.
المشكلة ليست في التعدّد، بل في السياسة المتّبعة للتعاطي معه وفي طبيعة النظرة إليه
لقد زرع أتاتورك، بموقفه السلبي من الأعراق والقوميات غير التركية، قنبلة في أساس الجمهورية، نقطة ضعفٍ مقيمة، كعب آخيل، ومشكلة دائمة انعكست سلبا على الاستقرار الداخلي وعلى صلابة الدولة، ورقة اسُتغلت ضد الدولة التركية في الصراعات الجيوسياسية من الخصوم هزّت استقرارها، وأضعفت مقاومتها الضغوط الخارجية ودفعتها إلى التنازل في ملفات حيوية للأمن القومي؛ وبندا ثقيلا على جدول أعمال الحكومات التركية المتعاقبة، يمينية كانت أم يسارية أم إسلامية، مشكلة استنزفت قدرات الدولة وخيراتها وكرّست هشاشتها، مواجهات دامية استمرت عقودا راح ضحيتها آلاف المدنيين والعسكريين ودمرت مئات القرى والبلدات وهدرت فيها مليارات الدولارات. قنبلة لم تحاول الحكومات التركية المتعاقبة تفكيكها في ضوء طبيعة الدولة التركية ودور الجيش كحارس للنظام ومصالحه التي نمت على خلفية دوره في محاربة "الإرهاب" الكردي، وتحوّل الموقف من المطالب الكُردية إلى ورقة للمزاودة السياسية بين الأحزاب التركية، فالأحزاب التركية، يسارية ويمينية وإسلامية، التي حكمت تركيا؛ من حزب الشعب الجمهوري إلى حزب العدالة والتنمية؛ مرورا بحزب الحركة القومية، اختلفت على كل شيء، واتفقت على عدم التنازل للكُرد، مع تباينٍ في أسلوب التعامل معهم. ربط الأول القضية بالتخلف الاقتصادي والاجتماعي للكُرد، واعتمد الأطر القانونية في مواجهة الحراك الكردي، في حين ربطها الثاني بتنافسات وصراعات جيوسياسية واعتمد مزيجا من الشدّة واللين، القوة العارية والإصلاحات الهامشية. وربطها الثالث بمؤامرة غربية لتفتيت تركيا، واعتمد القوة بما في ذلك الاغتيالات، شكّل فرق اغتيال تحت اسم "الذئاب الرمادية" للقيام بهذه المهمة.
وما طبول الحرب التي يدقّها النظام التركي الآن إلا امتداد نمطي لسياسات الحكومات التركية المتعاقبة خلفيتها رفض الإقرار بالتعدّد العرقي والقومي في الدولة التركية.
قد تكون الظروف مؤاتية لضغط سياسي أو لعمل عسكري تركي في شمال سورية، جوي أو جوي برّي، في ضوء تشابك الملفات وتقاطع المصالح
على المقلب الآخر، حزب الاتحاد الديمقراطي، وجناحه العسكري، وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة، يتحمل جزءا هاما من المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع في شمال شرقي سورية، على خلفية التصوّرات والخطط التي أطلقها وطبقها في مناطق سيطرته، بدءا من تأسيس الإدارة الذاتية وتبعاتها، تشكيل برلمان ووضع دستور خاص وقضاء وأحوال شخصية وقوانين عقوبات ومناهج تعليم خاصة وفرض ضرائب وتحصيل جمارك على السلع المستوردة، وتطبيق رؤاه العقائدية والأخلاقية من دون الأخذ بالاعتبار أنها ليست محلّ توافق أو إجماع، لا محليا ولا وطنيا، والسيطرة على مناطق شاسعة من الأرض السورية، بما في ذلك مناطق إما ليس فيها كُرد أو نسبتهم فيها قليلة، وفرض قراراته على سكان هذه المناطق، التجنيد الإلزامي، تحت عنوان الحماية الذاتية، وبرامج تعليم غير متفق عليها، بما في ذلك فرض تدريس اللغة الكردية في مناطق ليس فيها كُرد، والاستحواذ على الثروات الطبيعية. فرض نفسه كحاكم على مناطق واسعة من الأرض السورية شرق نهر الفرات وغربه، وفشل في تجنّب التمييز العرقي والقومي، إن في الإدارة واتخاذ القرارات أو في الخدمات الصحية والتعليمية والمعيشية، والبطش بالمخالفين من كل الأعراق والقوميات. واستفزازه تركيا عبر الاستعانة بمقاتلين من حزب العمّال الكردستاني، ورفع راياته وصور قائده المعتقل في سجن في جزيرة إيمرلي التركية، عبدالله أوجلان، والسماح لهذا الحزب بممارسة دور واسع في وضع الخطط والإمساك بدفّة القيادة، وعمله، حزب الاتحاد، بتوجيه العمّال الكردستاني، على توسيع سيطرته على طول الحدود السورية التركية، بما في ذلك السعي للوصول إلى البحر الأبيض المتوسط، لضمان التواصل مع العالم الخارجي، وتحويل الشريط الحدودي إلى قاعدة خلفية للعمال الكردستاني ومعركته في تركيا.
ليس الاعتراض هنا على علاقة حزب الاتحاد بحزب العمال الكردستاني، فهذا يمكن تفهمه في ضوء التوجهات القومية، هذا السلوك موجود عند أصحاب الدعوات القومية، كما العرب في تشكيلهم تنظيماتٍ قومية عربية، الاعتراض على السياسة وإدارة الصراع، خصوصا بعدما تبيّن أن لإشراك حزب العمّال في رسم السياسات والخطط تبعات سلبية كبيرة إن على العلاقة مع السوريين، الكُرد، من خارج حزب الاتحاد، وغير الكُرد، أو على العلاقة مع القوى الخارجية، الإقليمية والدولية، التي تصنف "الكردستاني" منظمة إرهابية. وانخراطه، حزب الاتحاد، في علاقة عدائية مع المعارضة السورية بجناحيها السياسي والعسكري.
لم يغير الحزب المذكور سياساته بعد تشكيل قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، أو يُعِد النظر فيها ويقوّم خللها ونقاط ضعفها، حتى بعد تعرّضه لهزائم قاسية في عفرين وتل أبيض ورأس العين، بحيث يقلّص الهوّة مع المعارضة السورية، ويحتوي الاستفزاز التركي، بل استمر في السياسات نفسها والخيارات ذاتها.
زرع أتاتورك، بموقفه السلبي من الأعراق والقوميات غير التركية، قنبلة في أساس الجمهورية، نقطة ضعفٍ مقيمة
كانت الحصافة تقتضي من حزب الاتحاد الديمقراطي إدارة المنطقة التي سيطر عليها جناحه العسكري من دون تغيير طابعها السياسي بتأسيس الإدارة الذاتية ووضع دستور وقوانين .. إلخ، فالتوازنات المحلية والإقليمية والدولية لا تشير إلى وجود فرصة لقيام إدارة ذاتية واستمرارها؛ وأن يتوقع أن يجلب التأسيس ردود فعل عدائية وتحرّكات ميدانية ضد الإدارة، وتقتضي (الحصافة) الإعلان عن رؤيته للحل في سورية والانخراط في حوار مع القوى السياسية السورية حولها، أجرى حوارات داخل مناطق سيطرته ومع شخصيات وقوى سورية معارضة في أوروبا على خلفية تأكيد صحة موقفه وتوسيع دائرة شرعية مشروعه وقد تلت ندوات عقدها داخل مناطق سيطرته اعتقال مخالفين تحدّثوا في الندوات، وانتظار الجلوس إلى طاولة الحل السياسي لطرحها أحد الخيارات الوطنية، واستخدام السيطرة ورقة ضغط على هذه الطاولة لتحقيق كل مطالبه أو بعضها، كما كانت قواعد الصراع والاشتباك تستدعي منه عدم توسيع دائرة الخصوم عبر ضرب الحراك الشعبي الكردي المنخرط في فعاليات الثورة السورية، بداية، وتصعيد عملياته ضد حواضن المعارضة، قصفاً ومفخّخات، ومنعه الأحزاب الكردية المنخرطة في المجلس الوطني الكردي من العمل في مناطق سيطرته. تاليا، كان الانفتاح، وتقبل الآخر المختلف، جسرا للحصول على غطاء شعبي سوري مهما كانت قوته ومستواه، كما يقتضي عدم استعداء تركيا عبر إبراز ولائه لقيادة "الكردستاني" وتنفيذ خططه وبرامجه المعادية للنظام التركي، فالمنطق والحصافة السياسية يقولان بقراءة الواقع والتوازنات والتحرّك ضمن الممكن، مع العمل على تطوير الواقع وتوسيع دائرة الممكن.
قد تكون الظروف مؤاتية لضغط سياسي أو لعمل عسكري تركي، جوي أو جوي برّي، في ضوء تشابك الملفات وتقاطع المصالح الذي تشهده اللحظة السياسية الراهنة إقليميا ودوليا، لكنها ليست النهاية، والحصيف من يفكّر بالخطوة التالية، فالكُرد في تركيا، والمنطقة، ليسوا حالة مؤقتة. وقد شهدت العقود الأخيرة على مدى إصرارهم على تحصيل حقوقهم القومية، ما يعني أن الجرح سيبقى ينزف على حساب الدول والشعوب، وأن خيار الإنكار والرفض لحقوق الأعراق والقوميات وصفة لاستمرار المواجهة ونزف الدماء، وإن الحل المنطقي والعملي هناك في تركيا مع أعراقها وقومياتها. وهذا يستدعي من الطرف الثاني تمهيد الطريق للطرف الأول عبر الإعلان عن القبول بخطواتٍ تحتوي التوتر مع تركيا، وعرض مخرج عملي يحدّ من مخاوفها الوهمية والحقيقية.